وإذا أطلق الانسان العنان لفكره ولم يضع حداً للتجاوز أو بمعنى ادق، لم يقنن أفكاره في سياق متوازن مع العقل، فان حالة التمرد هذه ستنشىء بلا ريب زخما هائلا من تصورات لا تصل إلى حد اليقين بقدر ما تفرز شكوكا من شأنها اضعاف الانسان واسقاطه لأن الوهم لا يمكن ان يكون حقيقة والحقيقة لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، بل انها استشعار يملأ الفؤاد قناعة ويمنحه السكينة والطمأنينة، وهذا يبرز ضعف الانسان في عدم الوصول وادراك ما سيحدث وعلم الغيب والذي هو رهن للخالق تبارك وتعالى علام الغيوب، غريب امر الانسان هذا الضعيف الذي لن يزيده غروره إلا انتكاسا على عقبيه في حالة ضعفه ومرضه وإذا حلت به نائبة يستكين ويركن الى خالقه متوسلا اليه بأن يفرج كربته حتى إذا شفي وعافاه الله عاد قويا متناسيا بأنه كان بالامس من الضعف كسيرا حائرا، وهنا ينشط ابليس اللعين ويتغلغل في قلبه وجوارحه ولم يدرك هذا المسكين، بأن ما اصابه من ضعف ومرض ابتلاه الله به، انما هو امتحان لقوة صبره وايمانه بربه، والخالق تبارك وتعالى شديد العقاب وسريع الحساب قال تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ}. واذا لم يتحكم العقل بالمدارك ويوقف سطوة المشاعر فإن هذا قد يؤدي الى تزعزع في القيم وتخلخل في الأخلاق وبالتالي السقوط في اخطاء ليس فقط تأنيب الضمير ما يؤرق مقترفها، بل انها لا تتوانى في زيادة حسرته وكآبته وهو يئن من وطأة المرض حينها، بأي منطق يدعو ربه، وهو الذي اضحى طريح الفراش ربما من دعوة مظلوم بلغت مالك الملك وهي التي ليس بينها وبين الله حجاب، واخطاء البشر تؤذي البشر ومن كتاب الله المعجز نستلهم العبر، وفي هدي نبيه ما يزيل الهم والكدر. فاذا كانت الآلة وهي التي من صنع البشر قد احكمت قبضها وساهمت بشكل او بآخر في غرور وغطرسة الانسان، الى الحد الذي يجعل المشاعر تتجمد والاحاسيس تتبلد، فان الشعور بالمسؤولية والانسانية يتلاشى ويتبخر في تضليل وتعتيم يسهم في نسجه وصياغته وبسط سيطرته أعداء الانسانية، فهم لا يريدون خيراً للانسان، بل هم الشر، وتقدم الامم لا يقاس في عدتها وعتادها وتطورها بقدر ما يقاس في اخلاقها وصدق الشاعر حين قال: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا فإذا خفت صوت الحكمة وانحسر دور القيم وطرحت المبادىء أرضا فلا مناص والحالة هذه بأن تنحى الروابط الانسانية جانبا، فمهما بلغ الانسان من تطور في آلته فإنها وفي ظل افتقاره للقيم لا يعدو كونه ألعوبة وصيداً ثمينا وسهلا لمن امتلأت قلوبهم حقدا وغلا، وفي هذه الحالة فإن الآلة ستفقد قيمتها لأنها ساهمت في فقدان صانعها لقيمته. وقيل «لا شيء اقوى من الكلمة الرقيقة ولا أرق من القوة الحقيقية» والقوة الحقيقية المعنية هي التي تضع المبادىء والقيم نصب عينها، وما لم تكن مقرونة بتلك القيم والمبادىء فانها تصبح في هذه الحالة قوة همجية وليست حقيقية والخالق تبارك وتعالى خلق الانسان وميزه عن غيره بالعقل، ولكي يكون العقل وهو مكمن قوة الانسان في خدمة الانسان فإن هناك قيودا على استخدامه، من هنا نزلت الاديان السماوية لكي تسخر هذا العقل في بناء الانسان لا في تدميره، بل وتهذيب سلوكه وتعريفه بخالقه، والسبل الكفيلة لكسب رضا الخالق، وتجنب غضبه قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}. وحينما تجنح المكابرة بالعقل، ويبطش سوء التقدير بالفكر، فان الضياع هي المحطة التي سيرسو فيها من فقد عقلة وتلوث فكره. قال الشاعر: وأفضل قسم الله للمرء عقله فليس من الخيرات شيء يقارب إذا أكمل الرحمن للمرء عقله فقد كملت أخلاقه ومآربه