الصوم مدرسة روحية عظيمة القدر، وفي الصوم تتجلى المشاركة التامة بين الغني والفقير، وفي الصوم فرصة لتربية ملكة الامانة في شعور الصائم، وفريضة الصيام تربي في نفسية الصائم ملكة النظام. وبعبارة مختصرة: الصوم هو أحد دعائم الإسلام وأركانه الخمسة. جاء في الحديث القدسي «الصوم لي وأنا أجزي به». ومن جهة أخرى، فإن من معاني الصوم أنه إمساك عن شهوة البطن، وبالمعنى الاقتصادي تخفيض الانفاق أي ترشيده بمعنى ادق. بَيدَ أننا نرى، في حياتنا المعاصرة، علاقة طردية بين شهر الصوم والاستهلاك الشره والمرء يدهش من هذا النهم الاستهلاكي الذي يستشري لدى الناس عامة في هذا الشهر دون مبرر منطقي. فالجميع يركض نحو دائرة الاستهلاك المفرط، والاستعداد للاستهلاك في رمضان يبدأ مبكراً مصحوباً بآلة رهيبة من الدعاية والاعلانات والمهرجانات التسويقية التي تحاصر الاسرة في كل مكان وزمان ومن خلال اكثر من وسيلة. فالزوجة تضغط باتجاه شراء المزيد والأولاد يلحّون في مطالبهم الاستهلاكية والمرء نفسه لديه حالة شراهة لشراء اي شيء قابل للاستهلاك وبكميات أكثر من اللازم. ومن الاسف ان اعتاد بعض الناس على بعض العادات السيئة الدخيلة علي شهر رمضان والتي تتمثل في طريقة الانفاق الاستهلاكي وهي ليست من الاسلام. فعندما يأتي شهر رمضان نرى ان أغلبية من المسلمين يرصدون ميزانية في الأشهر العادية، وتبدأ مضاعفة استهلاكها ويكون النهار صوما وكسلا والليل طعاما واستهلاكا غير عادي. ونسي هؤلاء او تناسوا ان اختصار وجبات الطعام اليومية من ثلاث وجبات الى وجبتين اثنتين فرصة طيبة لخفض مستوى الاستهلاك وهي فرصة مواتية لاقتصاداتنا خصوصا ونحن امة مستهلكة اشارت كل الاحصاءات الى ان اقطارنا كافة تستهلك أكثر من انتاجها وتستورد اكثر من تصديرها، وما هذا الاستهلاك الزائد دائماً والاستيراد الزائد غالباً إلا عاملان اقتصاديان خطيران تشقى بويلاتهما الموازنات العامة وموازين المدفوعات. وغير خافٍ، ان الانفاق البذخي في رمضان امر لا يمكن ان يتسق مع وضعية مجتمعاتنا الاسلامية التي في اغلبها مجتمعات نامية تتطلب المحافظة على كل جهد وكل امكانية من الهدر وما نصنعه في رمضان هو بكل تأكيد هدر لامكانات مادية وهدر لقيم سامية وهدر لسلوك منزلة القناعة. ومن المعلوم ان الاستهلاك المتزايد باستمرار معناه المزيد من الاعتماد على الخارج، ذلك لأننا لم نصل بَعدُ الى مرحلة الاكتفاء الذاتي او مستوى معقول لتوفير الاحتياجات الاستهلاكية اعتمادا على مواردنا وجهودنا الذاتية، وهذا له بَعدٌ أخطر يتمثل في وجود حالة تبعية غذائية للآخر الذي يمتلك هذه الموارد ويستطيع ان يتحكم في نوعيتها وجودتها ووقت ارسالها الينا. ومن ثم، كان للاستهلاك أبعاد خطيرة كثيرة تهدد حياتنا الاقتصادية وتهدد أيضا أمننا الوطني، فهل يكون شهر رمضان فرصة ومجالا لامتلاك ارادة التصدي لحالة الاستهلاك الشرهة التي تنتابنا في هذا الشهر الكريم؟! ان صفة استهلاك المسلم هي الكفاية لا التبذير وان منفعته وإشباعه يتحقق ليس فقط بالاشباع المادي بل من خلال الاشباع الروحي بأداء الواجب نحو المسلمين من مال الله الذي رزقه اياه.. وان منفعته تتحقق حتى في قيامه بواجبه نحو المسلمين وقبل ذلك أهله وزوجته وولده. ولذا، يسعى المسلم الى مرضاة الله تعالى، فيشكر الله على نعمه ويحمده كلما وفقه الى استهلاك شيء من رزق ربه والمسلم ينفق ماله ليحقق منفعة بسد حاجته، وبلوغ متعته والكفاية عن الحرام، وتحقيق مرضاة الله ونيل ثوابه عز وجل. ان شهر الصيام فرصة دورية للتعرف على قائمة النفقات الواجبة بالمفهوم الاقتصادي، وعلى قائمة الاستبعاد النفقي ثم فرصة لترتيب سلّم الاولويات، ثم فرصة كذلك للتعرف على مستوى الفائض الممكن. ثم ان شهر رمضان فرصة لتحقيق ترشيد أفضل، ولتوسيع وعاء الفائض الممكن، ولكن شريطة ان يرتبط بالقاعدة القرآنية الارشادية المعروفة: {كٍلٍوا وّاشًرّبٍوا وّلا تٍسًرٌفٍوا} هذه القاعدة، ولا شك هي ميدان الترشيد على المستوى الفردي والمستوى العام. لقد أكد الباحثون على حقيقة مهمة تنص على ان فوضى الاستهلاك تبرز بوضوح، حينما تبدأ الزوجة بعرض نفقاتها لتكون نفقات من السلع والمواد الغذائية التي تبتلع فعلا الدخل الشهري حتى آخر قرش فيه. وتنتقل عدوى التبذير الى الاطفال فينمو معهم انعدام الحس بقيمة الأشياء فلا يحافظون بالتالي على ألعابهم او كتبهم وفي ظل ذلك، لا يعود التبذير والترف مسألة فردية بل مظهرا اجتماعيا، ولا يعود قضية وقتية حالية، بل مسألة تمتد الى المستقبل ولا يعود التبذير والترف مقتصرا على الاسرة بل والوطن كذلك. الشائع بيننا ان المرأة أكثر اسرافا من الرجل سواء في ملبسها او انفاقها، لكن هناك من الرجال من هم أكثر اسرافا في اموالهم وسلوكهم ومقتنياتهم، فالأمر نسبي ويربط بحجم ما يتوفر لدى الفرد من مغريات نحو الاسراف، ويبقى السؤال المهم: أيهما اكثر اسرافا الرجل أم المرأة أم الاثنان معا؟! والحقيقة ان كلاً من الرجل والمرأة مسؤول، وان كان الاسراف والتبذير اكثر في المجتمع النسوي نسبيا. ومن ثم فإن الزوجة التي تعد وتطبخ والزوج الذي يجلب وينفق كلاهما متهم في الشراهة الاستهلاكية التي تنتاب مجتمعنا في رمضان وغير رمضان. وبلغة الاحصاءات والارقام فإنه في احد الاعوام قدّر نصيب شهر رمضان من جملة الاستهلاك السنوي في احدى الدول العربية بما نسبته 20%، اي ان هذه الدولة تستهلك في شهر واحد وهو شهر رمضان، خمس استهلاكها السنوي كله، بينما تستهلك في الاشهر المتبقية الاربعة أخماس الباقية، وقد كلف رمضان في ذلك العام الخزانة حوالي 720 مليون دولار. وتشير بعض الدراسات التي اجريت حديثا ان ما يُلقى ويُتلف من مواد غذائية ويوضع في صناديق القمامة كبير الى الحد الذي قد تبلغ نسبته في بعض الحالات 45% من حجم القمامة. كما عملت دراسة ميدانية عن الاسراف والتبذير في المأكولات المرمية في مدينة واحدة في احدى الدول، فكانت النتيجة ان الاسراف اليومي نحو مليون ليرة والاسراف السنوي 365 مليون ليرة. لذا، يمكن القول بصفة عامة، ان الاسراف في هذا الشهر «رمضان» وفي غيره، سمة من سمات منطقتنا العربية. بل، وللأسف، فقد امتدت ظاهرة العولمة الى جوانب عبادية واجتماعية واقتصادية، اخطرها الجوانب الايمانية. فشهر رمضان، يجري تحويله عاما بعد عام الى مناسبة للترويج الكثيف والحاد لمختلف السلع، وتسهم في ذلك بقوة مختلف وسائل الاعلام وفنون الدعاية ووكالات الاعلانات. وهكذا، يتزايد اخضاع المشاعر الدينية لاستغلال كوسيلة من وسائل توسيع السوق، بل وأحيانا لترويج أكثر السلع بُعداً عن الدين. وعليه، فإننا نؤكد على ان مفتاح حل الأزمات الحقيقي إنما يكمن في التربية الاستهلاكية. ان رمضان هو محاولة لصياغة نمط استهلاكي رشيد وعملية تدريب مكثف تستغرق شهرا واحدا تفهم الانسان ان بامكانه ان يعيش بالغاء الاستهلاك، استهلاك بعض المفردات في حياته اليومية ولساعات طويلة كل يوم. إنه محاولة تربوية لكسر النهم الاستهلاكي الذي اجمع العلماء الاجتماعيون والنفسيون انه حالة مرضية. ختاماً فإن أهم المعالجات التي يمكن من خلالها التصدي للشراهة الاستهلاكية او التخفيف من حدتها: أولاً: ينبغي التخلص من القيم الاستهلاكية السيئة الضارة حتى لا يتسبب الاستهلاك الترفي في وجود الفقر وسط الرخاء إذ باستمراره قد تضيع موارد الأسرة. ثانياً: حبذا تقدير الكميات المطلوبة والجودة والنوعية والفترة الزمنية لاستهلاك السلع والمنتجات. ثالثاً: لابد من كبح انفعالاتنا العاطفية المتعلقة بالكميات المطلوب شراؤها واستهلاكها على مستوى الاطفال والنساء والاسر. رابعاً: الحذر من تقليد المجتمعات المترفة ذات النمط الاستهلاكي الشره المترف المتلاف. ذات يوم اوقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنه عبد الله رضي الله عنه وسأله: إلى أين انت ذاهب؟ فقال عبد الله : للسوق، وبرر ذلك بقوله: لاشتري لحماً اشتهيه، فقال له الفاروق: أكلما اشتهيت شيئاً اشتريته! إنها حكمة اقتصادية خالدة وقاعدة استهلاكية رشيدة خصوصا ونحن نشهد في ايامنا هذه سباقا محموما يترافق معه أساليب تسويقية جديدة واساليب اعلانية مثيرة ووسائل اعلامية جذابة. وأقول لأختي المرأة المسلمة، ينبغي عليك عندما تشعرين بأن حافز الانفاق يدفعك الى مزيد من الاسراف والتبذير والتسوق والشراء والشراهة الاستهلاكية، اتباع الخطوات التالية: 1- تمهلي قليلاً قبل ان تخرجي نقودك واسألي نفسك ان كان هذا الشعور حقيقياً أم انفعالياً. 2- احرصي على ألا تشتري محبة الآخرين بالهدايا أو تقليدهم ومحاكاتهم بالانفاق المفرط. 3- اسألي نفسك قبل الشراء اذا كان بالامكان شراء ماهو افضل من هذا الشيء اذا اتيحت فرصة عرض سعري أفضل. وختام القول فإننا لو جمعنا كل ما ينفق على الامور التافهة في صندوق موحد ثم انفق هذا على ازالة أسباب المأساة من حياة الناس لصلحت الأرض وطاب العيش فيها.