كثر الحديث عن مسببات ما افرزه مجتمعنا من قلة اعتمدوا الفكر التكفيري باسم الجهاد ونوقشت القضية تحت مسمى «الخطاب» ربما لتخفيف وطأة احتمالية ربط ما يحدث باخفاقات اجتماعية وعرفية كانت ولا تزال تساهم في تشكيل وجداننا ووجدان هؤلاء، وتناول العديد من السادة الباحثين والاخوات المثقفات مرئياتهم بالعرض والتحليل سعيا لايجاد مسببات نشوء هذا التيار المتطرف، ناهيكم عن آلاف المقالات التي تبنت عبارات مثل «نشجب» و«ندين» و«نستنكر».. الخ!! وفي ظل اختيار الكثير من مثقفينا لتغييب الوعي بأبجديات الصحة النفسية والعقلية عن افراد المجتمع، فقد غض الطرف تماما عن احتمالية اصابة جل هؤلاء بأمراض نفسية «Psychiatric» وذهانية «Mental» عادة ما يصاحبها غلو في الدين وتطرف في الفكر العقائدي وتمجيد لرؤى الانا حتى وان كانت وليدة الوهم والخيال.. وللتحول في سطوتها مع تفاقم المرض الى يقين ذاتي مصحوب ببحث دؤوب عمن يساهم في تعزيز اكيديته. ولست هنا لانصب نفسي طبيبا عارفا بالنفس، بل لطرح معلومة ساقتها لي مطالعات في زمن سابق بحثا عن اجابات بحجم سطوة الذات وغضبها. وما انتم بصدد قراءته لا يعدو كونه محاولة للتفكير مجاهرة، وهذا لا يلغي حق القارىء الكريم برفض او قبول ما سيأتي ذكره في السطور التالية: يعتبر «هوس الاكتئاب Manic Depression» من اكثر الذهانية شيوعا والتي تصحبها مظاهر الغلو في الدين ايا كانت الديانة. وهذا الداء العضال يأتي في الغالب بعد تجربة مريرة مع مرض الاكتئاب النفسي المزمن «Chronic Depression» الذي لم يعالج بالطريقة العلمية الصحيحة او ان ذوي المريض عمدوا الى استخدام معطيات الطب الشعبي التي لا تأخذ المريض الا لمراحل اكثر سوداوية فيفقد الامل تماما، وبتزامن هذه المرحلة مع تأخر تبني العلاج الطبي السليم فإن المريض يدخل في مرحلة هوس الاكتئاب، ومن علاماته ما يلي: 1- قلة العناية بالنظافة الجسدية. 2- فرط النشاط «حركة دائمة ومستمرة دون غاية محددة». 3- قلة النوم «وقد يستحيل النوم على المصاب في مراحل متقدمة». 4- الافراط في الكلام «يستطيع المريض ان يتحدث لساعات متواصلة دون ان يضجر أو يتعب». 5- سماع اصوات وهمية. 6- رؤية علامات بصرية وهمية «كأن يقول المريض: انا على حق، وللتأكيد يقول بأنه قد رأى علامة في السماء تشير الى خصوصيته في كذا او كذا». 7- البوح للبعض بكونه صاحب نبوءة معينة ويجب عليه ايصالها للناس ايا كانت الوسائل. وما اتضح لنا من تقارير وسائل الاعلام على اختلافها وتبيان ان بعض هؤلاء المتطرفين كانوا اصحاب وجود اجتماعي مقبول، حتى ان بعضهم كان من المبدعين في مجال الفنون، ومن ذوي السيرة الاجتماعية الحسنة والتي تبدلت بشكل مفاجىء الى الخروج عن كل ضوابط الشخصية السوية هو في واقع الامر دليل على احتمال اصابة غالبية هؤلاء بنمط من انماط الاضطراب الوجدانية. ولست هنا للتحدث بصيغة علمية بحتة، فهذا متروك لاصحاب الاختصاص امثال «الدكتور فهد اليحيا والدكتور خالد الحربي والدكتور سليمان الصغير والعديد من الاطباء النفسيين المؤهلين».. كما ان ما ورد بحاجة للمراجعة والتدقيق من الناحية الطبية البحتة، ولكن هذا لا يمنع من ظهور علامة استفهام كبيرة حول الوعي الصحي النفسي من ناحية اجتماعية وكذا عن مستوى الخدمات التي تقدمها وزارة الصحة..!! كما ان ما ورد لا يلغي او يهمش حجم الجرم المرتكب من قبل هؤلاء حتى وان كان بعضهم يئن تحت وطأة المرض النفسي ايا كان نوعه. ولكن المسألة بحاجة لمن يتوقف عندها لدراسة ابعاد ظهورها في مجتمع حديث العهد بطغيان مدني مستبد، فالصحف كما تعلمون تطالعنا بين الحين والآخر بصور فوتوغرافية لاشخاص خرجوا ولم يعودوا قط لاهليهم وبيوتهم، علما بأن الهيام دون غاية سمة ملازمة للفصام «Schizophrenia» وهو مرض يعرف بين العوام بالجنون، او ان يطلق على من يعاني منه عبارة قميئة تقول «فلان استخف» والحمد لله والشكر.. وكأن قائلها في وصف فلان هذا محصن ضد الاصابة بالاضطرابات الذهانية..! ومن المعلوم ان المجتمعات المدنية المعاصرة تساهم بفاعلية مؤسفة في زيادة اعداد المصابين بالامراض النفسية بدءا من القلق «Anxiety» ومرورا بالاكتئاب التفاعلي «Reactive Depression» ووصولا الى الامراض الذهانية مثل هوس الاكتئاب والفصام، ناهيكم عما تفرزه المدنية الحديثة وضغوطاتها من تهيئة مناخات ملائمة لظهور شخصيات سايكوباتية «Psychopathic» وهي انماط شخصية شديدة العدوانية «كمحترفي الاجرام والقتلة المتسلسلين» تحتاج لبرامج علاجية دقيقة وما يتبعها من برامج تأهيل واعادة تأهيل متزامن مع متابعةدقيقة قبل اعادة الشخص المصاب لمجتمعه للاستفادة من قدراته ان كان قابلا للعلاج. وعادة ما تكون لدى هؤلاء القدرة على السيطرة الفكرية على المجموعات الصغيرة، بسبب حدة ذكائهم، وتكوين اتباع مطيعين كنتيجة لسطوة شخصياتهم وقدراتهم على المراوغة والتلون. وهذا المرض الاخير، عزيزي القارىء، هو داء لا يخضع لأي محاولة اغفال كما انه علة قادرة على التواجد في اي مجتمع مهما كانت ديانته من خلال اشخاص لديهم الاستعداد المسبق مع ملاحظة وجود اختلاف جلي بين مسببات الاصابة بالامراض النفسية ومسببات الاصابة ببعض الامراض الذهانية، اذ ان الاخيرة تعزى في مجملها، وليس في جميع حالاتها، الى استعداد جيني «Genetic» موجود اصلا مع المصاب. كل هذا يأتي كدلالة على حتمية ضرورة مطالبة الجهات ذات الاختصاص بتوعية المواطن والمقيم بأساسيات الصحة النفسية، ووجوب الحذر من سقوط صغار السن من مراهقين وشباب في حبائل تبعية عمياء لهؤلاء «العدوانيين» الذين قد يبدون لرجل الشارع العادي في اتم صحة وعافية، وقد يحسدهم البعض على ما لديهم من مخزون ثقافي وديني وخلقي يختفي وراءه مارد لا غاية له سوى التخريب والتدمير والقتل للوصول الى لذة مريضة. واذا شئنا الخوض بعد تبني مبدأ المصارحة وانطلاقا من اهمية المشاركة الشعبية، فإن المجتمعات الحديثة تفتش دائما، كبداية، عن علاقة التربية والتعليم والصحة العامة بالاضافة للاسرة والمجتمع في كل ما يحدث في مساهمة هذا الرباعي في صنع الحدث..!! ولكم ان تتخيلوا نتائج دورات التصحيح البطيئة التي تتبناها بعض الواجهات الاساسية بخلاف قصور الوعي الاسري والاجتماعي عن ادراك قابلية الصحيح للاعتلال والرفض القطعي للتعاطي مع الاخصائيين والاطباء النفسيين بحجة انهم «دكاترة مهابيل»..! وقد لاحظنا ان اغلب المشاركات الشعبية تبنت عبارة «نرفض هذه السلوكيات الدخيلة على مجتمعنا» متناسين اننا مجتمع استقبل المدينة وقبل بها طوعا، كغيره، واننا معرضون، كغيرنا، للتعاطي مع هذه الظواهر وما شابهها، وما يميز الآخرين عنا هو محاولة البحث جديا عن اسباب ظهور هذا الاعوجاج القادر على الظهور في اي مجتمع وذلك سعيا لاحتوائه بالتزامن مع محاولة القضاء عليه. هذه الاضطرابات النفسية والعقلية كغيرها من الامراض، عرضة للمد والانحسار على المستوى الشخصي، فقد لاحظنا ان بعض هؤلاء الجناة قد عاد لارض الوطن بعد تواجده في افغانستان، كما حاول بعضهم تبني صيغة الاستقرار العرفية بالزواج وانجاب الاطفال، لكن مع مرور الوقت وبسبب قلة الوعي بأهمية الصحة النفسية عاد اليهم اضطرابهم الفكري وقرر بعضهم الانضمام الى مقاتلي الشيشان في محاولة لترسيخ مفهوم مفتعل للجهاد، وهذه الشخصيات القلقة وغير المستقرة تشكل نواة مهيأة لتبني الفكر المتطرف بكل ما فيه من وعود بتحقيق امجاد وهمية وبطولات مبنية على تدمير الآخر، وبمراقبة دقيقة للسلوك العام لهؤلاء فإن الطاقة البدنية الموجودة لديهم تأثرت بشكل مباشر بما لديهم من نشاط ذهني مرضي مفرط ساهم في عدم قدرتهم على الاستقرار والتجانس مع مجتمعاتهم. وكما اني لست هنا لابرىء ساحة هؤلاء القتلة، الا انني اسوق تحذيرا بوجوب الالتفات للصحة النفسية والعقلية، فالمسافر الى الحجاز من الرياض او العائد من ذات الطريق، على سبيل المثال لا الحصر، سيلاحظ اثناء توقفه للتزود بالوقود وجود بعض المواطنين الذين يأتون طلبا لورقة من فئة الخمسة ريالات او العشرة تحديدا، وان لم يجد استجابة فإنه يتركك في دعة وسلام بينما يبدو في حالة رثة مع تدهور في مستوى النظافة الشخصية، الا ان هذا النموذج لا يفرط ابدا في كبريائه ويرفض التوسل طلبا للمال، وهنا يمكن لنا ان نجزم بأن هذا الشخص يعاني من نمط من انماط الفصام، وتخيلوا معي لو ان مثل هذا الانسان سقط في يد احد المجرمين واغراه بالمال واقنعه بوجوب اطلاق النار على ايٍّ كان آخذين بالاعتبار سهولة انقياد هؤلاء للركوب في السيارات والتجوال في الشوارع لساعات طويلة. ونظرا لما يواجهه اهل المريض من متاعب في محاولة احتواء مريضهم منزليا، فإنهم لا يجدون بدا من تركه للخروج الى الشوارع والطرقات العامة، خصوصا في المدن الصغيرة والقرى والهجر. وللتنويه، اعيد واذكر القارىء الكريم بأنني لا اتحدث عن حالات تأخر عقلي او ما شابهها، فلتلك الحالات علامات خارجية بارزة يسهل على اغلبنا تمييزها، ولكني اتحدث عن امراض ذهانية قد تصيب الانسان في مرحلة المراهقة او الشباب او النضوج. واذا كان المجتمع جادا في محاولة المشاركة بتقليص عدد هؤلاء وتخفيف معاناتهم، فإنني لا ارى ما يمنع من مطالبتهم للجهات المعنية باخضاع ابنائهم او اقاربهم للعلاج قبل فوات الاوان. كما يجب ان تزداد التوعية بالامراض النفسية والذهانية، مع المطالبة بزيادة القدرة الاستيعابية للمصحات النفسية والعقلية وتطوير الخدمات المتاحة للمرضى من الجنسين. ولو تخيلنا ان احدهم مر على نشرة توعوية تعنى بالامراض النفسية واكتشف ان قريبه فلان يشكو من بعض الاعراض او اغلبها، فإنه حتما سيترك الاستسلام جانبا ويبادر الى اخضاع قريبه للعلاج النفسي او العقلي حسب معطيات الحالة. ومن هنا تبدأ مرحلة صياغة جديدة للمرض النفسي والعقلي، ويستحيل عندها الاستسلام الى مثابرة مقترنة بالامل.. بل الكثير منه. ويأتي اهم جوانب المسألة اشراقا في انه لن يبقى للقتلة من اتباع يرقى بهم العدد الى مستوى الجماعات، وستكون مسألة حصرهم اسهل بكثير مما هي عليه الآن، وعندها سيبرز مطلب آخر للشفافية بوجوب حصر التيارات الفكرية التي يتعرض لها الشباب ووضعها على مائدة النقاش العلمي لتحديد سلبياتها وآثارها المدمرة التي لم تتكشف بعد لقلة من شبابنا، مع فتح ابواب لاستيعاب انشطة ثقافية غيبت لفترة ليست بالقصيرة، والتي يمكن من خلالها تعميق وترسيخ مبدأ الحوار كأحد اساسيات احتواء الطاقات الشابة. كما سيساهم هذا في تحقيق اهداف بعيدة المدى من اعادة تشكيل الاطار الثقافي للشاب السعودي تحديدا، وفتح آفاق تأخذه بعيدا عن الانغماس في مأساة التفحيط او تعاطي المخدرات او التواجد في الاسواق دون غاية.. الخ. المشاركة الشعبية للفرد عرفت في العالم الغربي كأحد اهم روافد التهذيب، ويمكن لبعض الدوائر ان ترسخ مبدأ المشاركة من خلال العمل المدني «civil work» كأن يقوم الشاب العاطل عن العمل والحاصل على الثانوية العامة بالمساهمة لوقت قصير في تنظيم حركة المرور امام المدارس او في بعض الميادين المزدحمة، وكذا تطويع جنوح بعض الاحداث الذين اعتادوا سرقة السيارات من خلال اخضاعهم للعلاج النفسي بالمشاركة في العناية بالحدائق العامة او توزيع مطويات التوعية بأهمية المحافظة على الماء «مثلا». كل هذا تحت رقابة مسؤول يقوم بنقل صورة كاملة عن تطور خطة التأهيل. وهذا النموذج التأهيلي المعمول به يساق كمثال فقط للنجاحات التي تحققها مشاركة الفرد على مستوى اجتماعي شعبي. وتأتي هذه الخطط كبدائل تأهيلية لانجاح اعادة اكتشاف الشاب لذاته ولقدراته الكامنة. قد يبدو هذا جنونا لبعض القراء، ولا استبعد ان يتبعها احدهم بقوله «وش هالبربسة»..!! لكنها منهجية فاعلة في دول كبرى ولن يثبت جدواها من عدمه لدينا الا بعد اخضاع خطط مماثلة للتجربة الميدانية. ختاما، كل ما قرأتم لا يقتضي بالضرورة ان تعمم معطياته على الجميع، فلكل انسان منا سيناريو خاص ساهم في تشكيل شخصيته وان كنا نشترك في وجودنا ضمن مجتمع واحد، كما ان جميع ما ورد من معلومات طبية ونفسية هي من باب الثقافة العامة التي لا يمكن تنزيهها عن الوقوع في الخطأ، وهي محاولة لفتح اوجه جديدة للحوار والمكاشفة التي اضحت مطلبا اساسيا اذا شئنا لانفسنا ولابنائنا الخوض في مستقبل مطمئن نحن جديرون به. وتأتي مطالبة سمو ولي العهد بوجوب المشاركة الشعبية كدليل على وجوب عدم الوقوف عند «مجمدة» الشجب والاستنكار والرفض بالافواه والاقلام.. بل ان هذه المطالبة من سموه تأخذ كل واحد منا الى مرحلة متقدمة من المسؤولية تجاه نفسه ومجتمعه بتقديم رؤاه واقتراحاته من منطلق شعبي يسهل فهمه واحتواؤه بعيدا عن تعقيدات المنظرين والمحللين وادعياء التواصل الاكاديمي.