توصف مهنة الإعلام عادة بأنها مهنة المتاعب والضغوط النفسية، وذلك بما تشتمله من مواعيد طباعة وبث وتعاملات عديدة مع أحداث على المستوى الميداني، وترتيبات تكنولوجية غير قابلة للتفاوض الخاطىء معها.. كل هذه وغيرها من الظروف تحتم على الكوادر الإعلامية أن تقف امام مسؤولياتها المهنية، وهي في حالة من التوتر والقلق، مما يفرز ضغوطا ومعاناة نفسية تتراكم عبر الكثير من القرارات الإعلامية التي يتعامل معها الإعلاميون. وربما أحد أسباب الضغوط القائمة التي قد تكون مصدر معاناة هو عدم المواءمة بين حجم المسؤولية ومقدار الصلاحيات التي تتطلبها القرارات الإعلامية. كما أن التضارب في التعليمات التي تصدر للأجهزة الإعلامية ربما تكون سبب مزيد من حالات المواقف الضاغطة التي يواجهها الإعلاميون. يعتبر (هربرت فردنيرجر) المحلل النفسي الأمريكي أول من أدخل مصطلح الاحتراق النفسي burnout الى حيز الاستخدام الأكاديمي وذلك عام 1974م، وناقش تجاربه النفسية التي جاءت نتيجة تعاملاته وعلاجاته مع المترددين على عيادته النفسية في مدينة نيويورك. ولكن أعمال كرستين ماسلاك Maslach اساتذة علم النفس بجامعة بيركلي الأمريكية مثلت الريادة في دراسة وتطوير مفاهيم الاحتراق النفسي. وقد عرفت ماسلاك الاحتراق النفسي بأنه مجموعة أعراض من الاجهاد الذهني والاستنفاد الانفعالي والتبلد الشخصي، والاحساس بعدم الرضا عن المنجز الشخصي والأداء المهني. وعادة ما يكون هناك لبس وغموض عن مفهوم الاحتراق النفسي وارتباطه بالضغوط النفسية نتيجة التداخل في التعريف بين المصطلحين. ويمكن التفريق بين هذين المصطلحين في ثلاث خصائص: 1 يحدث الاحتراق النفسي من ضغوط العمل النفسية نتيجة تضارب الأدوار وازدياد حجم العمل. 2 يحدث الاحتراق لهؤلاء الذين عادة ما يتبنون رؤية مثالية لأداء الأعمال والاضطلاع بالمسؤوليات المهنية. 3 يرتبط الاحتراق عادة بالمهام التي يتعذر على الشخص تحقيقها. ويرى باحثون آخرون أن الاحتراق النفسي هو المحصلة النهائية او المرحلة المأساوية المتطرفة للضغوط المهنية، أي ان الاحتراق هو عرض من أعراض الضغوط النفسية.ويحدث الاحتراق النفسي عندما لا يكون هناك توافق بين طبيعة العمل وطبيعة الانسان الذي ينخرط في أداء ذلك العمل. وكلما زاد التباين بين هاتين البيئتين زاد الاحتراق النفسي الذي يواجهه الموظف في مكان عمله. واشارت ماسلاك الى أن جذور وأساس الاحتراق النفسي يكمن في مجموعة عوامل تتركز في الظروف الاقتصادية والتطورات التكنولوجية والفلسفة الادارية لتنظيم العمل. وقد حددت ماسلاك مجموعة عوامل تنظيمية مؤسسية تؤدي الى الاحتراق النفسي لدى الموظفين والعاملين في بعض الشركات والمؤسسات والهيئات على النحو التالي: 1 ضغط العمل.. يشعر الموظف بأن لديه أعباء كثيرة مناطة به، وعليه تحقيقها في مدة قصيرة جدا ومن خلال مصادر محدودة وشحيحة. وكثير من المؤسسات والشركات سعت في العقود الماضية الى الترشيد من خلال الاستغناء عن أعداد كبيرة من الموظفين والعمالة، مع زيادة الأعباء الوظيفية على الأشخاص الباقين في العمل، ومطالبتهم بتحسين أدائهم وزيادة انتاجيتهم. 2 محدودية صلاحيات العمل.. إن احد المؤشرات التي تؤدي إلى الاحتراق النفسي هو عدم وجود صلاحيات لاتخاذ قرارات لحل مشكلات العمل.. وتتأتى هذه الوضعية من خلال وجود سياسات وأنظمة صارمة لا تعطي مساحة من حرية التصرف واتخاذ الاجراء المناسب من قبل الموظف. 3 قلة التعزيز الايجابي.. عندما يبذل الموظف جهدا كبيرا في العمل وما يستلزم ذلك من ساعات اضافية وأعمال ابداعية دون مقابل مادي او معنوي يكون ذلك مؤشرا آخر عن المعاناة والاحتراق الذي يعيشه الموظف. 4 انعدام الاجتماعية.. يحتاج الموظف احيانا الى مشاركة الآخرين في بعض الهموم والأفراح والتنفيس، لكن بعض الأعمال تتطلب فصلا فيزيقيا في المكان وعزلة اجتماعية عن الآخرين، حيث يكون التعامل أكثر مع الأجهزة والحاسبات وداخل المختبرات والمكاتب المغلقة. 5 عدم الانصاف والعدل.. يتم احيانا تحميل الموظف مسؤوليات لا يكون في مقدوره تحملها. وعند إخلاله بها يتم محاسبته. وقد يكون القصور في أداء العمل ليس تقاعساً من الموظف، ولكن بسبب رداءة الأجهزة وتواضع امكانياتها ومحدودية برامجها، اضافة الى امكانية وعدم وجود كفاءات فنية مقتدرة لأداء الواجبات المطلوبة. 6 صراع القيم.. يكون الموظف احيانا امام خيارات صعبة، فقد يتطلب منه العمل القيام بشيء ما والاضطلاع بدور ما ولا يكون ذلك متوافقا مع قيمه ومبادئه، فمثلاً قد يضطر عامل المبيعات أن يكذب من أجل أن يمرر منتجا على عميل، او غير ذلك من الظروف والملابسات. وتكثر أعراض الاحتراق النفسي في اوساط المهن التي يكون فيها التعامل مع الجمهور، والتي عادة تتطلب مواجهة مباشرة او استيعابا دقيقا لآراء واتجاهات الناس، والتي تعد محكا أساسياً في تقييم أعمال المشتغلين بتلك المهن. ولاشك ان الاعلام بمختلف وسائله وتخصصاته يقع ضمن هذه الشرائح المهنية التي قد يعاني أصحابها من درجات معينة من الاحتراق النفسي. ومن أهم السمات التي قد تؤدي الى المعاناة الاحتراقية في حقل الاعلام ارتباط العمليات الاعلامية بمواعيد محددة وتوقيتات ثابتة سواء للبرامج او نشرات الأخبار او مواعيد الصدور الصحافي والبث الإذاعي والتلفزيوني. وقد أقرن احد الباحثين أهمية ودقة متطلبات العمل الإعلامي في مختلف تخصصاته مع الدقة والأهمية التي يؤديها مراقبو حركة الملاحة الجوية. وكلاهما يتطلب دقة ومواعيد ثابتة وأداء عقليا خاصا. وعموما فإن أي شخص يكون معرضا لمستوى معين من الاحتراق النفسي، فليس هناك أحد في مأمن من درجة معينة من الاحتراق الوظيفي. يتبع (*) رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للاعلام والاتصال استاذ الإعلام المساعد بجامعة الملك سعود الرياض