لقد فقدت البلاد بموت الأمير ماجد ذي القلب الرحيم والشخصية الجذابة والدعابة المرحة والوطنية المتأججة والسماحة والبشاشة، شخصاً يتمتع بكل معاني الإنسانية والنبل والكرم في ماله وفي وقته. وكانت الرسالة التي حملها سمو الأمير ماجد أثناء عمله وزيراً للشؤون البلدية والقروية والتي أكد عليها في أكثر من اجتماع هي تطبيق اللامركزية، فقد تعهدها ورعاها وأشرف عليها ليتم تنفيذها على مستوى الوزارة ومستوى الأمانات والبلديات بجميع فئاتها، فكانت اللامركزية هاجسه الكبير لما يتمتع به سموه من رغبة أكيدة في سرعة البت وبخاصة تنفيذ المشاريع. وتنفيذاً لهذا التوجه صدر قرار وزاري في عام 1396ه بتكوين لجنة للتوجيه ولجنة أخرى للتنفيذ، وتم اختيار الأعضاء من كبار المسؤولين بالوزارة، للقيام بدور النظراء مع شركة مكنزي التي تم التعاقد معها، ونيطت بها مسؤولية إجراء دراسات ميدانية إدارية تهدف إلى تنظيم الوزارة وفروعها وكذلك الأمانات والبلديات مع تقديم مقترحات للهياكل التنظيمية المناسبة لتلك المرحلة التي تميزت بنقلة إدارية تنموية وحضرية سريعة.. وحرصت الوزارة على تنفيذ ما تراه مناسباً من توصيات تلك الدراسة التي جاءت تؤيد اللامركزية أسلوباً ومنهاجاً في عمل البلديات، واستطاع الأمير ماجد بحكمته وهدوئه أن يحتوي كثيراً من الانتقادات المتكررة، التي وجهت ضد هذا التنظيم من داخل الوزارة ومن خارجها. لقد كانت الوزارة تغصُّ بالمراجعين على اختلاف حاجاتهم أو أعمالهم وكانت هناك اختناقات إدارية، نتيجة تكدس الأعمال والمشروعات الكبيرة المتعددة المتعلقة بالمرافق العامة وتخطيط المدن والأراضي ونزع الملكيات ومشاريع التحسين والتجميل، ولم يكن عمليا -والحالة هذه- أن يحتضن الجهاز المركزي بالوزارة وحده تلك المشروعات في زمن الطفرة العمرانية دون ان تشترك مع الوزارة فروعها المختلفة، لذا أكد سمو الأمير ماجد في كل مواقفه الإدارية على تبني الأسلوب اللامركزي في تنفيذ المشروعات خوفاً من تعطلها، إذ كانت التوجيهات السامية تصدر للجهات الحكومية بسرعة تنفيذ المشاريع رغبة في تحقيق أعلى معدل من التنمية ينشدها المواطن وتهدف إليها الحكومة الرشيدة. هذا الكم الهائل من المشروعات العملاقة المختلفة في منتصف التسعينيات الهجرية فرض واقعاً إدارياً معيناً، وهو اللجوء إلى الأسلوب اللامركزي في تنفيذ مايتعلق بالمخططات الرئيسة والتفصيلية ومشاريع السفلتة والإنارة والأرصفة وتوزيع الأراضي الحكومية ومشاريع المياه والصرف الصحي. أذكر ان الأمير ماجد بعد مباشرته العمل وزيراً للشؤون البلدية والقروية، راجعه آلاف المواطنين لأمور تتعلق بالأراضي ونزع الملكيات وفتح بلديات واعتماد مخططات تفصيلية، ولقد كان الأمير ماجد -من قبيل الدعابة التي لايخلو منها مجلسه الظريف المؤنس- يقول: «لقد خشيت سقوط الدور الأول في ذلك المبنى القديم الذي كانت الوزارة تحتله آنذاك بحي الفاخرية نتيجة كثرة المراجعين، وكان سموه يرى أنه للتخفيف على المواطنين خارج مدينة الرياض، لابد من إعطاء الفروع وأمناء المدن ورؤساء البلديات والمجمعات القروية صلاحيات واسعة تسهل إجراءات العمل وتسرّع الخطى في تنفيذ كثير من المشروعات الحيوية التي لاتقبل التأجيل». وأذكر في هذا الصدد أيضاً ان الأمير ماجد أثناء زيارته الرسمية إلى لندن في شوال عام 1396ه مع وفد من الوزارة، ومرورا بمكتب الوزير المختص بالتنمية الحضرية هناك لحظ سموه أن طاولة الوزير كانت خالية تقريبا من الأوراق المكدسة، فسأل الأمير الوزير عن المعاملات، فأجابه الوزير الانجليزي ان دوره يقتصر على الإشراف والمتابعة والرقابة ووضع القوانين والمعايير، وأنه لايدخل في التفاصيل الدقيقة المتعلقة بالتنفيذ، فتلك مسؤولية البلديات والفروع ولقد أعجب الأمير بهذا النهج وأيده وكرره في أكثر من مناسبة. بعد ان اكتملت دراسة مكنزي، تم رفعها مع الهياكل التنظيمية المقترحة للمقام السامي الذي أحالها بدوره إلى اللجنة العليا للاصلاح الإداري، التي أوفدت للوزارة أحد أعضائها وهو معالي الاستاذ محمد أبا الخيل» وزير المالية والاقتصاد الوطني آنذاك. وتم عقد اجتماع بينه وبين الأمير ماجد باشتراك أحد المسؤولين بالوزارة ونتج عن ذلك الاجتماع إدخال تعديلات على بعض المسميات، ورفع الموضوع للمقام السامي الذي وافق على ذلك التنظيم. منذ ذلك الحين، بادرت الوزارة بتوجيهات من الأمير ماجد بتنفيذ الهيكل التنظيمي، الذي وافق عليه المقام السامي المتمثل بإنشاء خمس مديريات للمناطق لمت شتات الفروع المتناثرة التي كانت تسمى آنذاك مديرية الشؤون الهندسية، ومديرية تخطيط المدن.. وضمت الوزارة إلى المديريات العامة الجديدة صلاحيات الإشراف على المياه والصرف الصحي التي كانت الوزارة تقوم بها، إذ لم يكن للوزارة حينذاك فروع للمياه والصرف الصحي، كما أعطت الوزارة تلك المديريات صلاحيات تحليل المشاريع والبت في مناقصاتها وتنفيذها، والاشراف على تنفيذ منح الأراضي، واعتماد المخططات التفصيلية، ولم تبخل الوزارة على الأمانات وبلديات المناطق بتخويلها صلاحيات واسعة تماثل صلاحيات المديريات العامة أو تزيد عليها. لقد رغبت الوزارة بمبادرة من الأمير ماجد في تبني هذا النهج اللامركزي اعتقاداً منها بأنه ليس بوسع جهاز الوزارة بالرياض أن يقوم بتنفيذ تلك المشاريع المعتمدة في جميع أنحاء المملكة المتباعدة، ومع ذلك احتفظت الوزارة لنفسها بوضع الأسس والمعايير وبالرقابة والإشراف والمتابعة والتخطيط والمخططات الرئيسية والبرامج وبعض المشروعات الكبيرة أو البت في مناقصات المشروعات التي تشمل أكثر من مدينة. على هذا النهج، وفي إطار الترغيب والحث على تطبيق اللامركزية استمر الأمير ماجد بإصدار القرارات الوزارية المتضمنة تخويل الفروع صلاحيات فنية وإدارية ومالية وإجرائية واسعة، ولم يتوقف عن حث المسؤولين بالوزارة على اتباع هذا النهج، ولاسيما عندما يقوم بزيارة رسمية لكثير من الدول المتقدمة التي تطبق الأسلوب اللامركزي في التنمية الحضرية والريفية. وقد شاهدت سموه يقوم بتوجيه المسؤولين المصاحبين له في زيارته الرسمية للدنمارك عام 1396ه وكذلك عند زيارته هونج كونج وتايوان عام 1397ه وحث المسؤولين معه على أخذ الجوانب الإيجابية للأسلوب اللامركزي الذي تطبقه تلك الدول الثلاث. لم يكن الأمير ماجد مغرماً باللامركزية إلا لما يحمله من كرم الذات وثقته بالمسؤولين حوله وإيمانه العميق بأن الإداري الناجح ليس من يعمل وحده ويهمش الآخرين، ولكن الإداري الناجح في نظر الأمير ماجد وفي علم الإدارة الحديثة هو من يترك غيره يعمل من خلال تفويض صلاحيات مناسبة وتحت رقابة يقظة وإشراف واعٍ ومحاسبة دقيقة. لم يكن الأمير ماجد محباً للعمل من خلال اللامركزية فقط، ولكنه محب للوطن من خلال حبه لجميع المواطنين ومن خلال فتح قلبه لمن يحمل أفكاراً صائبة ومشورة صادقة وصراحة ناضجة تحمل في طياتها الاسهام في بناء هذا الوطن والنصح لولاة الأمر وخدمة المواطنين. فرحم الله الأمير ماجد وأسبغ عليه شآبيب رحمته وأسكنه فسيح جناته وأسبغ على إخوانه وأبنائه وبناته وزوجته وأقاربه وزملائه ومواطني هذا البلد الصبر والسلوان فهو بحق فقيد الجميع.