في الوقت الذي كان فيه ابسن ibsen يضع حجر الاساس للواقعية في المسرح العالمي بمسرحياته الرائدة، ظهر في فرنسا تيار آخر يدعو إلى إعادة النظر في مفهوم الفن والواقع، ويدعو إلى ربط الإبداع الفني بالحقائق العلمية والتزامها كما هي في الطبيعة دون تعديل أو اضافة، عرف هذا الاتجاه «بالمذهب الطبيعي» وكان رائده والداعي إليه فكرياً وفنياً الاديب ا لفرنسي إميل زولا Emile Zola (1840-1902). الذي تأثر بالنظريات العلمية الرائجة في ذلك الوقت وخاصة نظرية اوجست كوفن August Comte مؤلف كتاب «الفلسفة الايجابية» «Positive Philosophy» (1842) ، وكتاب «مقدمة إلى الطب التجريبي» «Introductian to Expermintd Medicine» (1865) لمؤلفه كلود برنارد Claud Bernard. مفهوم الفن ولأن حقل ابداعه الاساسي كان في الراوية فإن اميل زولا لم يكتب مسرحيات الا ما اقتبس من رواياته واشهرها Therese Rauquin، ولم تكن مسرحياته نفسها بذات اهمية درامية بقدر ما كانت مقدماتها هي الاهم، فقد كانت تشرح نظرية هذا المذهب الجديد، وقد جمعت مقالاته في كتاب مستقل بعنوان «الطبيعة في المسرح» (1881م) وفيها وضع زولا خلاصة افكاره في المسرح، واعلن ان المسرح التقليدي ليس الا مثالاً لتزييف الحقيقة والكذب على الواقع، وان ليس هناك من خيار، فاما ان يموت المسرح او ان يكون حديثاً وطبيعيا، فمن ناحية الشكل دعا زولا الى تحطيم الحيل الفنية الدرامية الموروثة عن المسرحية المتقنة الصنع Well- made Play المتمثلة في مسرحيات مشاهيرها امثال سكريب Scribe وساردو Sardou، واوجيه Augiev ودوماس الابن Dumas fils وقال: ان هذه الوسائل مثل الحبكة والتعقيد والحل انما تخالف الطبيعة عندما تجعل الاحداث في النهاية تؤدي إلى تعاطفنا مع البطل، واعتبر المسرحية المتقنة الصنع اكثر خطراً على المسرح من الرومانسية. وظيفة الكاتب المسرحي ويدعو زولا الى التزام الموضوعية والمنهجية العلمية في الادب، ففي كتابه «الرواية التجريبية» The Experimental novel» يعمل على تطبيق المنهج العلمي الذي ورد في كتاب كلود برنارد السالف الذكر، ويقارن الاديب بالطبيب الذي يعمل لمعرفة اسباب المرض ليعالجه، وبنفس الاسلوب على ا لكاتب أن يعرض الادواء الاجتماعية على خشبة المسرح حتى يسهل علاجها وتجنب اسبابها، وقد جعل هذا المنهج أتباع المذهب الطبيعي يطالبون الفنان التعامل مع مادته الابداعية بنفس الموضوعية التي يتعامل بها العالم في المختبر مع مادته، لقد ظل زولا يردد بانه لن توجد هناك مدرسة او نظرية في الفن، ان الحياة نفسها ستبقى الحقل الكبير الذي يدرسه الاديب ويبدع منه كما يشاء، ولهذا فالاديب من المذهب الطبيعي يجب ان يستمد موضوعه من طريقين لا ثالث لهما: إما ان يكون مستمداً من التنائج العلمية الدقيقة أو من تسجيل صادق وأمين لجزء من الحياة اليومية. فمهمة الكاتب المسرحي هي استحضار الشخصيات والمشكلة ثم تترك الاحداث تتوالى نتيجة لحتمية نظرية البيئة والوراثة، فالفرد عند زولا يعود إلى حياته العضوية تسيره غرائزه وحاجاته المادية، واذا كان الكاتب المسرحي لا يريد الخضوع للتجربة المعملية، فإن زولا يقترح عليه الآتي :«بدلاً من تخيل مغامرة وتعقيدها والتخطيط للأحداث والمفاجآت التي تتدرج من مشهد إلى مشهد حتى تصل الخاتمة، فإن على الكاتب المسرحي ان يأخذ من واقع الحياة تاريخ انسان أو جماعة من الناس وينقلها إلى المسرح نقلاً اميناً». فالكاتب المسرحي عند زولا يجب أن يحصر نفسه في قطاعين اما ان ينقل القوانين التجريبية وبنتائجها إلى المسرح أو يدرس قطاعاً من الحياة نقلاً حياً مباشراً. الموضوع والأسلوب وتحت شعار الموضوعية حيث لا يسمح الكاتب لأفكاره بالتسرب إلى عمله الفني، والدقة وتعني التسجيل الحرفي لواقع الحياة اسهب الواقعيون في الخوض في هموم الانسان المادية وغرائزه الحيوانية متناسين اشواقه الروحية وطموحاته المثالية. وهكذا ابتلى المسرح الطبيعي بالاقتصار على عرض الآفات والآثام الاجتماعية للطبقات المتدنية والسوقية، واذا كان اتجاه الطبيعية كما يرى بعض النقاد لتناول حياة الطبقات الفقيرة رد فعل لما حدث في القرن الثامن عشر حين قصر معظم كتاب المسرح موضوعاتهم على قضايا الطبقة الوسطى، فإن الطبيعية قد اساءت إلى الطبقة السفلى من حيث ارادت أن تحسن حين اسرفت في تناول الجوانب الدنيئة والسيئة لهذه الطبقة بينما نعمت الطبقة الوسطى بالتصوير المثالي لقضاياها من كتاب القرن الثامن عشر. يعتبر الاختيار في الفن من وجهة نظر زولا تشويها للحقائق وكذباً على الطبيعة. يقول زولا :«إنني لا أشعر بارتياح لكلمة «فن» لانها تحتوي على معنى اعادة صياغة ما حدث في الواقع بشيء من الاضافة والتعديل» لهذا يرى الطبيعيون ان المسرح والفن عموماً يجب أن يكونا قطاعاً من الحياة Slice of life. فالمسرحية الطبيعية لا تتبع نظاماً معيناً في بنائها مثل تحديد البداية والوسط والنهاية وهو الترتيب المعروف في المسرحية الكلاسيكية. إن الكاتب المسرحي الطبيعي يبدأ عمله الفني بدون اختيار وبدون تخطيط، فتبدأ القصة عشوائياً بأي موقف وتنتهي بنفس الطريقة دون حتمية الوصول إلى نتائج معينة لما حدث، لانها يجب أن تكون نقلاً طبيعياً لما يجري في الحياة الواقعية بدون اضافات، فليست هناك حاجة للحيل الدرامية التقليدية كالعقدة والصراع والانفراج والتشويق والحل. المنظر والتمثيل ولأن الطبيعية كالواقعية قد آمنت بنظرية التفسير المادي للحياة المتمثل في نظرية الوراثة والبيئة ونظرية النشوء والارتقاء واصبح لزاما اظهار عوامل البيئة والوراثة على خشبة المسرح، فقد حرصت الطبيعية على ان تحضر الى خشبة المسرح كل مكونات المشهد المسرحي كما هي في واقع الحياة لا صورها أو رموزها. ولعل اشهر عرض لمسرحية طبيعية هو عرض اندريه انطوان Andre Antoine لمسرحية «الجزارون» The Butchers (1888م) ذات الفصل الواحد، حيث تم احضار كل ما يمكن أن يوجد في محل الجزار وعلقت قطع حقيقية من اللحم وبالمثل كانت الملابس والادوات واثاث وغيرها من وسائل العرض المسرحي. اما طريقة التمثيل في المسرحية الطبيعية فقد اشترط زولا ان تكون نقلاً حياً لسلوك الانسان في الحياة، فالممثل عند زولا لا يمثل وانما يعيش على خشبة المسرح. فخشبة المسرح تعد كغرفة حقيقية، وعلى الممثل أن يتحرك فيها دون أن يلقي بالاً للمشاهد أو يحسب له حساباً، فمن الممكن أن يدير له ظهره وان يمارس أي سلوك أو فعل لا يجوز فعله في حضور الآخرين لان على الممثل ان يتصرف وكأنه وحده لا يرقبه أحد أي أن يكون سلوكه طبيعياً وكأن الحائط الرابع للمكان الذي هو فيه لا يزال قائماً بينه وبين المشاهدين، وقد ادى هذا القصور الى ارباك المشاهدين واثارة تقززهم بما يعرض عليهم من مشاهد إما قذرة أو مخلة بالآداب العامة أو قبيحة تعافها النفس، وقد كان وراء هذا كله رغبة زولا الملحة في ازالة الفوارق بين الفن والعلم وتحويل المسرح إلى مكان مماثل للمشرحة بما فيها مناظر مؤذية للشعور أو تحويله إلى معمل تجارب حقيقي يتعامل مع المادة الصرفة الجافة الجامدة دون أي اعتبار لشعور أو جمال أو فضيلة. المسرحية الرائدة لم تستطع الطبيعية أن تجتذب ادباء المسرح والجمهور وذلك بسبب الشروط الصعبة التي وضعتها لمنهج الكتابة والعرض المسرحيين ولتطرقها في نظرتها الى الفن نفسه حين الغت الفوارق بين المسرح والحياة وعطلت خيال وابداع المؤلف وحولته إلى مجرد ناقل لما يراه امامه في بيئته فقد عجزت النظرية الطبيعية ان تجد من يكتب لها بشروطها، ولما كان اميل زولا نفسه كاتباً روائياً وليس مسرحياً في الاصل فقد قام باعداد روايته «تيريز راكان» Therise Raquin» للمسرح فأصبحت اول عمل مميز في المسرح الطبيعي. يهتم الفصل الاول من مسرحية تيريز راكان بإظهار تفاصيل البيئة الفقيرة التي تعيش فيها تيريز مع زوجها المريض وامه العجوز وظلت الحياة محتملة وهادئة حتى وقعت الزوجة في غرام الرسام صديق زوجها، وما ان يأتي الفصل الثاني حتى يكون العاشقان الآثمان قد قتلا الزوج المريض اثناء رحلة على نهر السين وعملا ان تبدو الجريمة وكأنها حادث. وفي الفصل الثالث يتزوجان بمباركة ام الزوج القتيل التي تبقى لتعيش معهما، ولم تشعر تيريز وعشيقها بتأنيب الضمير على جريمتهما الا ليلة زفافهما حيث امضيا الليل يتبادلان الاتهامات فتسمعهما ام الزوج المقتول المصابة بشلل أفقدها المقدرة على الكلام فتزداد آلامها وكمدها فتظل تتوعدهما بغضبها الذي يرتسم على ملامحها، وفي الفصل الخامس تستطيع الأم تحريك يدها وتحاول الكتابة وعند نهاية المسرحية تستعيد مقدرتها على الكلام فتخاطب الزوجين الآثمين: سأعيش لأشهد اليوم الذي اراكما فيه تدفعان ثمن جريمتكما، في هذا المكان الذي سرقتما مني فيه سعادتي.. ولدي.. اريد ان ارى الندم يمزقكما كالحيوان المفترس. وتنتهي المسرحية، وقد بلغ سوء العلاقة بين الزوجين المجرمين لدرجة الكراهية والمقت وتحولت حياتهما الى جحيم فينتهيان الى الانتحار بالسم والموت عند قدمي الام العجوز قهراً وندماً. أسباب الفشل ولقد عرضت هذه المسرحية سنة 1873م واستقبلت استقبالاً بارداً من الجمهور والنقاد معاً، ولم يستمر عرضها اكثر من تسع ليال، ولقد شاركت عوامل كثيرة في هذا الفشل يأتي في مقدمتها محاولة النقل القبيح للواقع الى خشبة المسرح، ومع ذلك فإن النص المسرحي لم يكن نموذجاً لمواصفات المسرحية الطبيعية التي تحدث عنها زولا في مقالاته، ولعل ذلك يعود إلى أن النص المسرحي عبارة عن اختصار وتكثيف لرواية زولا بنفس العنوان فلم تخل من الشوائب التي تحدث في مثل هذه الحال، فجاء النص اقرب إلى الميلو دراما منه إلى المسرحية الطبيعية لقد حاول اميل زولا ان يجنب مسرحيته ما يسميه عيوب مسرحيات دوماس الابن، فحاول ألا تكون في مسرحيته عقدة أو مشكلة وألا يكون هناك موقف متعاطف مع احدى الشخصيات. ويرى النقاد الغربيون أن العيب الاساسي في مسرحية زولا يكمن في طريقة تصوره للشخصيات، فلقد جاء تصوير الشخصيتين الرئيسيتين تيريز وعشيقها لورنت بأنها من الضعف بحيث لا يستطيعان التخطيط لجريمة او حتى ارتكابها، والعجيب أن نجدهما ينفذان جريمتهما ببرود اعصاب وليس في لحظة هياج وغضب. ومن عيوبها ايضاً أن زولا اعتمد على بعض حيل الميلو دراما التي يرفضها في نظريته مثل قيام بعض الاحداث المهمة على المصادفة فمثلاً تجد السيدة العجوز ام الزوج الضحية تدخل في نفس اللحظة التي تتحدث فيها تيريز وعشيقها عن جريمتهما فتعرف سر مقتل ابنها ثم يلجمها الشلل عن النطق بما سمعت. وبالمثل فإن النهاية العادلة للمسرحية التي يتم فيها القصاص الإلهي من العاشقين المجرمين لا تتفق مع دعاوى نظرية زولا لانها من سمات الميلو دراما، ولا تجعل مسرحيته قطاعا من الحياة يبدأ بداية عشوائية وينتهي نهاية عشوائية، وهذا يدلل على أن زولا نفسه قد فشل في تقديم مسرحية تنطبق على نصها وبنائها مواصفات المسرحية الطبيعية التي تحدث عنها في نظريته ناهيك عن غيره من كتاب المسرح. النظرية والتطبيق ولقد كتب زولا للمسرح اربع مسرحيات اخرى اولها سنة 1865م ولكنها لم تعرض الا في غضون سنة 1889 وهي مسرحية «مادلين» Madeleine ثم قدم مسرحية The Rabourdin Heirs مستوحاة من مسرحية «فولبوني» Volpone لجونسون Jonson التي عرضت لسبع عشرة ليلة سنة 1874م ومسرحية The Red Button ،وقدمت سبعة عروض سنة 1878م ثم مسرحية «رينيه» Renee وقدمت ثمانية وثلاثين عرضاً سنة 1887م. هذا اضافة إلى مجموعة من الروايات والقصص القصيرة التي حولت إلى مسرحيات، وفي جميع الاحوال فإن ما اعده زولا من قصصه للمسرح او ما اعده غيره من بعده لم يكن يمثل المسرح الطبيعي تمثيلاً حقيقياً0 وانما كان يناقض افكار زولا نفسه وكانت معظم احداث هذه المسرحيات ونسيجها الدرامي اقرب إلى الميلو دراما منها إلى المسرح الطبيعي، ولم تحرز من نجاح يذكر إلا من جانب المنظر المسرحي الذي تحقق فيه اثر البيئة التي تتناسب مع ما يقتضيه الحدث المسرحي والشخصية. وهكذا كان واضحاً كما أثبتت الثمانينيات من القرن التاسع عشر انه لم يكن بإمكان زولا ان يكون ذلك الكاتب الذي يحقق افكاره عن الطبيعية في اعماله المسرحية، فقد فشل في الجانب التطبيقي للنظرية، ولكنه مع ذلك يظل ناقداً مرموقاً ومرجعاً اساسياً لدارس المذهب الطبيعي لا يمكن تجاهل دوره ونظرياته إلى اليوم، أما الجانب التطبيقي لهذا المذهب ونظريته من قام به غيره فيما بعد، وكان لابد أن يأتي اندريه انطوان Andre Antoine ليحقق ذلك.