نواصل أعزائي قراء الجزيرة في هذه الحلقة الواحدة والعشرين الجهود الكبيرة التي بذلتها المملكة العربية السعودية للمحافظة على ماء زمزم بطرق ومواصفات حديثة متطورة على أرقى المواصفات العالمية. كما يلاحظ القارئ الكريم كيف ظهر ماء زمزم منذ عهد سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام حتى الآن: لقد أنعم الله تعالى على هذا البلد الحرام نعمة كانت سبباً في عمارتها، وهذه النعمة هي ماء زمزم المبارك؛ فقد مضت على مكة سنون طويلة وهي قفر لا أنيس بها ولا جليس وشاء الله بحكمته أن يكون ظهور ماء زمزم سبباً في إقبال الناس عليها واتخاذها مسكناً لهم وموطناً وأمر الله تعالى نبيه إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام ببناء بيته العتيق ليكون للناس مثابة وأمناً يقول الله تعالى:{وّإذً يّرًفّعٍ إبًرّاهٌيمٍ القّوّاعٌدّ مٌنّ البّيًتٌ وّإسًمّاعٌيلٍ رّبَّنّا تّقّبَّلً مٌنَّا إنَّكّ أّنتّ السَّمٌيعٍ العّلٌيمٍ}، ويقول عز وجل:{وّإذً جّعّلًنّا البّيًتّ مّثّابّةْ لٌَلنَّاسٌ وّأّمًنْا وّاتَّخٌذٍوا مٌن مَّقّامٌ إبًرّاهٌيمّ مٍصّلَْى وّعّهٌدًنّا إلّى" إبًرّاهٌيمّ وّإسًمّاعٌيلّ أّن طّهٌَرّا بّيًتٌيّ لٌلطَّائٌفٌينّ وّالًعّاكٌفٌينّ وّالرٍَكَّعٌ السٍَجٍودٌ}. فهذا النبع الطيب المبارك من أهم أسباب عمارة مكةالمكرمة؛ لأن الذين استوطنوا هذه البقعة المباركة في بداية الأمر؛ إنما كانت رغبتهم هي مجاورة ماء زمزم؛ ومن عادة الناس أنها لا تسكن إلا حيث يوجد الماء. ولفضله كان هو الماء الذي غسل به صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يعرج به إلى السماء. فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي ذرّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل، ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغها في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء..». وفي الحديث الذي رواه مسلم عن أبي ذرّ الغفاري وروي فيه قصة إسلامه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله قائلاً: «متى كنت هنا؟ قال: قلت: قد كنت هاهنا منذ ثلاثين بين يوم وليلة قال: فمن كان يطعمك: قال قلت ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما أجد على كبدي سخفة جوع. قال: إنها مباركة، إنها طعام طعم..». وتكر الليالي والأيام، وتتعاقب الدهور ويبقى زمزم محط أنظار المسلمين تشتاق الى شربه النفوس تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم والتماساً لما فيه من بركة وقد حظيت بئر زمزم منذ فجر الاسلام بعناية حكام المسلمين واهتمامهم، وفي هذا العهد السعودي الزاهر بلغ الاهتمام بماء زمزم مبلغاً عظيماً فقد عمرت البئر عمارة جميلة مناسبة وهيئت لها كافة الوسائل اللازمة لتقديم ماء زمزم لقاصدي بيت الله الحرام. وفي هذا الفصل سوف نركز على إبراز التطورات التي لحقت ببئر زمزم، وسقيا زمزم في العهد السعودي الزاهر مع ذكر نبذة عن تاريخ زمزم وعن السقاية في العصور السابقة. أولاً: ظهور ماء زمزم: يعود تاريخ ظهور ماء زمزم إلى عهد سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن سعيد بن جبير: قال ابن عباس: «أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء»، فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا. ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال:{رّبَّنّا إنٌَي أّسًكّنتٍ مٌن ذٍرٌَيَّتٌي بٌوّادُ غّيًرٌ ذٌي زّرًعُ عٌندّ بّيًتٌكّ المٍحّرَّمٌ رّبَّنّا لٌيٍقٌيمٍوا الصَّلاةّ فّاجًعّلً أّفًئٌدّةْ مٌَنّ النّاسٌ تّهًوٌي إلّيًهٌمً وّارًزٍقًهٍم مٌَنّ الثَّمّرّاتٌ لّعّلَّهٍمً يّشًكٍرٍونّ} وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال: يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها. فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: فذلك سعي الناس بينهما. فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صه تريد نفسها - ثم تسمعت أيضاً فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف. قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال: لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً. قال فشربت وأرضعت ولدها فقال الملك: لا تخافوا الضيعة، فإن ها هنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ من يمينه وشماله فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائراً عائفاً، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا قال وأم إسماعيل عند الماء فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا: نعم، قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الإنس فنزلوا، وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنْفَسَهم وأعجبهم حين شبّ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم. وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم..» وذكر قصة زواج إسماعيل إلى أن قال «وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد. ثم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر. قال: ما أمرك ربك؟ قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتاً وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني. حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان:{رّبَّنّا تّقّبَّلً مٌنَّا إنَّكّ أّنتّ پسَّمٌيعٍ پًعّلٌيمٍ} قال فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان:{رّبَّنّا تّقّبَّلً مٌنَّا إنَّكّ أّنتّ السَّمٌيعٍ العّلٌيمٍ}. ثانياً: حفر عبدالمطلب بئر زمزم بعد اندثارها ذكر الأزرقي: أن جرهماً مكثت ما شاء الله أن تمكث تشرب من زمزم، فلما استخفت بالحرم، وتهاونت بحرمة البيت، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها سراً وعلناً نضب زمزم وانقطع، ولم يزل موضعه يدرس ويتقادم حتى غُبي مكانه وقد كان عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي يعظ جرهماً ويخوفهم النقم فلما لم يجد لوعظه فائدة عمد إلى غزالين من ذهب، وأسيافاً قلعية كانت في الكعبة فحفر لذلك بليل في موضع زمزم ودفنه سراً حين خافهم عليها فسلط الله عليهم خزاعة فأخرجتهم من الحرم، ووليت عليهم الكعبة والحكم بمكة ما شاء الله أن تليه. وبقى موضع زمزم مجهولاً حتى بوأه الله تعالى لعبد المطلب بن هاشم فحفره. ثالثاً: سقاية زمزم: تعريف السقاية: قال الأزرقي: فأما السقاية فحياض من أدم كانت على عهد قصي توضع بفناء الكعبة ويستقي فيها الماء العذب من الآبار على الإبل ويسقى بها الحاج. ويعود تاريخ السقاية إلى قصي بن كلاب؛ فعندما ساد قومه ودانت له مكةالمكرمة استأثر بحجابة الكعبة، والسقاية والرفادة والندوة واللواء؛ فكانت إليه سقاية الحجيج فلا يشربون إلا من ماء حياضه، وكانت زمزم إذ ذاك مطموسة من زمن جرهم. وقد آلت السقاية إلى بني عبدمناف بن قصي، وأما الحجابة واللواء والندوة فقد استقرت في بني عبدالدار. وكانت السقاية في يد عبد مناف، طيلة حياته، ثم انتقلت إلى ابنه هاشم حتى توفي، ثم انتقلت إلى ولده عبدالمطلب فقام بأمر السقاية حتى حفر زمزم فأصبحت مشرب الحاج وكان لعبد المطلب إبل كثيرة فإذا كان الموسم حلبها ومزج لبنها بالعسل في حوض من أدم عند زمزم وسقاها الحاج ولما توفي عبدالمطلب انتقلت السقاية إلى ابنه العباس حتى جاء الإسلام وأبطل مآثر الجاهلية كلها إلا السقاية والسدانة فقد أقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقيت السقاية في يد العباس بن عبدالمطلب حتى توفي، ثم وليها بعده عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، وبعد وفاته توارثها عنه أبناؤه حتى آلت إلى أبي جعفر المنصور العباسي. وكان بنو العباس يقومون بنزح الماء من بئر زمزم ثم صبه في حوض مخصص للشرب يوجد بين زمزم والركن، ومن ورائه حوض آخر للوضوء. ونقل رشدي صالح ملحس عن أيوب صبري أن بني العباس لما آلت إليهم الخلافة، حالت أعمال الملك دون قيامهم بأعمال السقاية فكانوا يعهدون إلى آل الزبير المسؤولين عن التوقيت في الحرم الشريف، بالقيام بأعمال السقاية نيابة عنهم، ثم طلب الزبيريون من الخلفاء العباسيين ترك السقاية لهم فتركوها لهم بموجب منشور، ونظراً لكثرة الحجاج فإنهم قد أشركوا معهم آخرين في العمل باسم «الزمازمة». عمارة بئر زمزم والعناية بها كانت بئر زمزم مكشوفة غير مغطاة وبجوارها حوضان أحدهما للسقاية والثاني للوضوء وكانت السقاية في العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاة العباس رضي الله عنه كان لابنه عبدالله بن عباس مجلس في زمزم في الجهة التي تلي الصفا على يسار الداخل إلى زمزم. وأول من عمل قبة على مجلس ابن عباس هو سليمان بن علي بن عبدالله بن عباس ولما ولي الخلافة أبو جعفر المنصور عمل على زمزم شباكاً وفرش أرضها بالرخام. وفي سنة ستين ومائة قام الخليفة المهدي بعمل قبة على زمزم وكانت تعمر وتجدد كل سنة وفي خلافة المعتصم سنة عشرين ومائتين كتب إلى عامله عمر بن فرج الرخجي بالتكليف بعمارة زمزم فعملها بالفسيفساء وجعل لها أساطين خشبية ضخمة في مهاريس من حجارة منقوشة ودفنها في الأرض حتى لا يأكل الماء الخشب وسكب بين الخشب والحجارة الرصاص وفرش أرضها بالرخام، وجعل فيها قناديل يستصبح بها في الموسم، وجعل على القبة التي بين زمزم وبيت الشراب الفسيفساء، وجعل في رحبة زمزم رخامة منقوشة يخرج منها الماء في فوارة تخرج من الحوض الذي في حجرة زمزم ثم يخرج الماء من قناة رصاص حتى يخرج في وسط الحوض من هذه الفوارة وهو الحوض الذي كان يسقى فيه النبيذ فيما مضى وحول الحوض اثنتا عشرة اسطوانة ساج طول كل اسطوانة أربع أذرع وفوق الأساطين حجرة ساج عليها قبة من الساج خارجها أخضر وداخلها مصفر. ثم تتابع الخلفاء والملوك على العناية بعمارة زمزم وإصلاح قبتها وأحواضها ووضعوا فيها الجرار لتبريد الماء ويسقى منه الحجاج والعمار وكذلك قام الخلفاء بتعميق بئر زمزم عندما قل ماؤها. وفي سنة 1301ه في بدء ولاية الشريف عون الرفيق أزيلت القباب المتقدم ذكرها بسبب السيل الذي اجتاح مكة. وبعد ذلك عمل بناء على زمزم مربع الشكل طول ضلعه احد عشر ذراعاً وعلى فوهة البئر قطعة من الرخام المرمر على قدر الفوهة ويبلغ ارتفاعها 120 سم عن بلاط الأرض التي حول البئر من داخل القبة التي فوق زمزم وداخل القبة مفروش بالرخام الأبيض ويحيط بفم البئر من أعلاها «شباك» معمول من الحديد المتين فوق شبكة من حديد وضعت سنة 1332ه لأن رجلاً من الأفغان ألقى بنفسه في بئر زمزم. وفي الجهة الشرقية يوجد باب قبة زمزم وعلى نصف سطح البئر من الجهة الغربية المقابلة للكعبة المعظمة مظلة وفوقها سقف من الخشب القوي فوقه جملون مصفح بألواح من رصاص ويحيط بالمظلة من جهاتها الشمالية والغربية والجنوبية خمسة شبابيك وهي مدهونة بصباغ أخضر وهذه المظلة خاصة برئيس المؤقتين الذي يبلغ المؤذنين الأذان وهم على منابر الحرم. ومن ضمن بيت زمزم حجرة واقعة في الجهة الجنوبية تابعة لأغوات الحرم يضعون بها أدوات