تمثِّل مبادرة «السعوديَّة الخضراء»، التي أطلقها صاحب السموّ الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء قبل أيَّام، فصلاً جديداً من فصول النهضة التنمويَّة التحوُّليَّة التي ترسم مسيرة المملكة نحو مستقبلٍ أكثر ازدهاراً ومرونةً واستدامة. فبعد مبادرات متنوِّعة شملت جوانب اقتصاديَّة واجتماعيَّة وترويحيَّة شكَّلت تحوُّلات لا يُستهان بها في حاضر المملكة، تأتي هذه المبادرة لتتناول أحد أهمَّ الجوانب التي تضغط بقوَّة على العالم ضمن سيلٍ من الأزمات المعاصرة؛ ألا وهو الجانب البيئي! تتناول مبادرة «السعوديَّة الخضراء» الكثير من التحدِّيات البيئيَّة وتهدف إلى التخفيف من آثارها المدمِّرة، سواءً ما يتعلَّق منها بجانب الغطاء النباتي والمحميَّات الطبيعيَّة أو تدهور الأراضي أو الحياة البحريَّة. حيث تطمحُ المبادرة في أبرز مستهدفاتها إلى زراعة 10 مليارات شجرة، وإعادة تأهيل 40 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة، إلى جانب رفع نسبة المناطق المحميَّة إلى أكثر من 30 في المائة من مساحة أراضيها. ولا تقل أهميَّة التوقيت عن أهميَّة موضوع المبادرة؛ إذ إنَّ هذا الوقت تحديداً يتميَّز بثلاث سِمات رفعت من أهميَّة وريادة المبادرة. فالعالم بدأ يتلمَّس خطواته نحو مرحلة (ما بعد جائحة كورونا)، وإن كانت الدول ما زالت تُعاني استمرار تمدُّد هذه الجائحة وموجاتها المستمرَّة. كما بدأ العالم، بقادته وأفراده، يعي حقيقة التغيُّر المناخي الذي توالت براهينه بكثافة خلال العامين الماضيَين؛ من حرائق الغابات إلى الفيضانات والأعاصير إلى موجات الجفاف والتصحُّر، وسط ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة وتقلُّبات استثنائيَّة في الفصول الموسميَّة. إلى جانب أنَّ هذه العام يشكِّل الانطلاقة الحقيقيَّة لحملة «عقد من العمل A Decade of Action» الذي نادت به الأُمم المتحدة للسعي الحثيث والفعَّال نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030. جائحة كورونا والحياة الصحيَّة تتمحور خلاصة الدُّروس التي خرج بها العالم من جائحة كورونا حول أهميَّة الحياة الصحيَّة، سواءً للأفراد أم المجتمعات! وفي هذا الخصوص، تؤكِّد منظمة الصحَّة العالميَّة (WHO) أنَّ الأُصول assets الأكثر أهميَّةً لأيّ مدينة هي صحَّة مواطنيها. وبالنَّظر إلى الأمراض التي تفتك بالبشريَّة، نجد أنَّ الأمراض غير المُعدية (NCDs)، مثل أمراض القلب والسكتات الدماغيَّة والسرطان وأمراض الجهاز التنفُّسي، تشكِّل السبب الأكبر للوفاة عالميَّاً، كما تتسبَّب في تكاليف باهظة سواءً للأفراد والأسر أو للمجتمع ككُل. وأحد الأسباب الرئيسيَّة التي تقود لتلك الأمراض هو تلوُّث الهواء. وهناك العديد من السياسات الحضريَّة التي تُسهم في الصحَّة العامة؛ من أبرزها سياسات التشجير، وتصميم وتنسيق المواقع Landscape architecture . هنا تأتي مبادرة «السعوديَّة الخضراء» كأداة فعَّالة لتحسين الصحَّة العامة في هذه المرحلة الجديدة التي تُشكِّل توجُّهاتنا ونمط حياتنا، ليس فقط في زيادة معدَّلات تنقية الأجواء، وإنَّما أيضاً في توفير بيئة ملائمة لممارسة المشي والرياضة. التغيُّر المناخي والالتزام بخفض الانبعاثات لقد أضحت مشكلة التغيُّر المناخي همَّاً يؤرِّق الجميع بعد سيلٍ من الحوادث المناخيَّة المتطرِّفة التي عايشها العالم مؤخَّراً! وعلى الرّغم من انخفاض انبعاثات غازات الدفيئة (التي يُشكِّل ثاني أُكسيد الكربون 65 في المائة منها) خلال 2020 نتيجةً لتباطؤ النشاط الاقتصادي جرَّاء الوباء العالمي (بمقدار 7 في المائة عن مستوى الانبعاثات القياسي في 2019 والبالغ 59.1 قيقا طن من مكافئ ثاني أُكسيد الكربون)، إلَّا أنَّ هذا الانخفاض يُعد مؤقَّتاً، حيث واصل تركيز هذه الغازات في الجو ارتفاعه خلال عامَي 2019 و2020. وما لم تتم الاستفادة من سياسات التعافي الاقتصادي الحالية وتوجيهها نحو الالتزام بتنمية ذات استخدام منخفض للكربون ممَّا يُسهم في الحفاظ على انبعاثات منخفضة باطراد، فإنَّ فجوة الانبعاثات الحالية لن تُسد، وبالتالي فإنَّ هدف الوصول بالانبعاثات إلى مستوى الصفر بحلول 2050 سيُصبح بعيد المنال! والمملكة كأحد أعضاء مجموعة العشرين (الذين يستأثرون بنحو 78 في المائة من انبعاثات غازات الدفيئة) تقدِّم مبادرة «السعوديَّة الخضراء» كالتزامٍ عمليٍّ بالمساهمة في خفض هذه الانبعاثات. فنسبة الخفض المستهدفة التي أشارت لها المبادرة والبالغة 4 في المائة من الاسهامات العالميَّة لانبعاثات الكربون تُعد واعدة بالنظر إلى حصَّتها (أسهمت المملكة بمقدار 1.6 في المائة من الانبعاثات العالميَّة في 2019). حيث تعمل الأشجار على إزالة ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوِّي، فضلاً عن تقليل استهلاك الطاقة المنتجة لتلك الانبعاثات؛ سواءً بتوفير البيئة الحراريَّة الملائمة للمباني التي تقلِّل من الحاجة للتكييف، أو بتشجيع المشي وركوب الدرَّاجات عِوَضاً عن استخدام السيَّارات. أهداف التنمية المستدامة والعودة للمسار الصحيح لقد مضى ثلث الوقت المُتاح لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، التي تعاهدت عليها دول العالم في 2015 للحفاظ على قابليَّة العيش بكوكبنا، وتبقَّى الثلثان أو ما أطلقت عليه الأممالمتحدة شعار «عقد من العمل» من أجل تركيز الجهود وتسريعها للوصول للأهداف المنشودة. ويُبيِّن «تقرير أهداف التنمية المستدامة 2020» الصادر عن الأُمم المتحدة أنَّ العالم لم يكن على المسار الصحيح نحو تحقيق الأهداف قبل 2020، ثمَّ جاءت جائحة كورونا لتزيد من الانحراف عن المسار! فبنهاية 2020، حان الموعد النهائي لتحقيق 21 غاية من الغايات ال169 المحدَّدة لأهداف التنمية المستدامة. ولكنَّنا نجد أنَّ هناك فقط ثلاث غايات قد تمَّ تحقيقها أو على المسار السليم لتحقيقها. ووفقاً لتصريح سموّ وليّ العهد من أنَّ مبادرة «السعوديَّة الخضراء» ستعمل على رفع الغطاء النباتي وتقليل انبعاثات الكربون، ومكافحة التلُّوث وتدهور الأراضي، والحفاظ على الحياة البحريَّة، فإنَّنا نجد أنَّها ترتبط بثلاثة من أهداف التنمية المستدامة بصورة مباشرة؛ الهدف (13) اتَّخاذ إجراءات عاجلة للتصدِّي لتغيُّر المناخ وآثاره، والهدف (14) حفظ المحيطات والبحار والموارد البحريَّة واستخدامها على نحو مستدام لتحقيق التنمية المستدامة، والهدف (15) حماية النُظُم الإيكلوجيَّة البريَّة وترميمها وتعزيز استخدامها على نحو مستدام، وإدارة الغابات على نحو مستدام، ومكافحة التصحُّر. وللمبادرة أيضاً ارتباط قوي بالهدف (11) جعل المدن والمستوطنات البشريَّة شاملة للجميع وآمنة وقادرة على الصمود ومُستدامة، وخاصَّةً ما يتعلَّق بالغايتَين السادسة والسابعة لهذا الهدف من الحد من الأثر البيئي السلبي الفردي للمدن عبر الاهتمام بنوعيَّة الهواء، وتوفير فراغات خضراء وأماكن عامة. وبالتالي، تُمثِّل هذه المبادرة دفعةً قويَّة لمسيرة المملكة نحو التقدُّم في تحقيق هذه الأهدف (13 - 15)، لكونها تحتاج مزيداً من الاهتمام مقارنةً بالأهداف الأُخرى. دور الإدارة المحلية في تفعيل ونجاح المبادرة تؤدِّي الإدارة المحليَّة، وما يتعلَّق بقطاعها البلدي تحديداً، دوراً هامَّاً ومحوريَّاً في بلورة وتنفيذ سياسات الدولة، كونها المستوى الأقرب للمواطن والأكثر احتكاكاً به ولارتباطها المباشر بالعديد من الخدمات. ومع التحوُّلات التي يشهدها القطاع البلدي حالياً، تبدو الفرصة متاحة لاحتضان مبادرة «السعوديَّة الخضراء» وتوفير الدَّعم اللَّازم لها. هناك دور كبير مُنوط بالإدارة المحليَّة، مُمثَّلةً في القطاع البلدي، في تفعيل واستدامة مبادرة «السعوديَّة الخضراء»، وفقاً للجوانب التالية: * دور وزارة الشؤون البلديَّة والقرويَّة والإسكان، فضلاً عن هيئات التطوير، في تطوير المعايير المناسبة لتنسيق وتنفيذ عمليَّات التشجير على مختلف المستويات، ومعايير الصيانة والمحافظة، بما يتناسب مع السياق الخاص (الموجود) لكل مدينة/ قرية ومنطقة/ موقع، حتى تكون هذه الأشجار والمزروعات إضافة حقيقيَّة للمشهد البصري وضمن تناغم عام موحَّد يُراعي الخصوصيَّة المكانيَة والمقوِّمات الخاصة لكل موقع، ووفق تصميم حضري urban design وتنسيق مواقع landscape architecture يتكامل مع الدور البيئي المنشود لهذه المبادرة. وهذا يستلزم أيضاً الاهتمام بتطوير مجال «تنسيق المواقع landscape architecture» لاختصاصه المزدوج بالجانب البيئي والجانب التصميمي سواءً على نطاق البيئة المبنيَّة أو البيئة الطبيعيَّة. وهنا يتداخل دور الجامعات (وبالأخص كليَّات العمارة والتخطيط والزراعة) ومراكز الأبحاث مع دور الوزارة وهيئات التطوير. * دور وزارة الشؤون البلديَّة والقرويَّة والإسكان، بالإضافة إلى هيئات التطوير، في تسخير الإبداع innovation والتقنية technology وتفعيل الأبحاث والتطوير research and development للمساهمة في دعم وتطوير هذه المبادرة حتى تؤتي أُكُلها. فالتحدِّيات التي تواجهها هذه المبادرة تحتاج لأفكار إبداعيَّة تستصحب التقنيات الحديثة، سواءً في إيجاد أنظمة لتقليل كميَّات المياه المطلوبة للري أو لتطوير أنظمة للمتابعة المستمرَّة، أو حتى لتوفير البيانات والقياسات الخاصة بدرجات الحرارة والانبعاثات الكربونيَّة. ويمتد ذلك أيضاً ليشمل ما يتعلَّق بالمناطق المحميَّة والأراضي المتدهورة وحماية البيئات البحريَّة. * دور الأمانات والبلديَّات في تنفيذ أعمال التشجير على نطاق واسع وشامل بالمدن والقرى، وما يتطلَّبه ذلك من حشد الجهود واستنفار الموارد وتنسيق الأعمال والأوقات، بما يتماشى مع الخطَّة الزمنيَّة للتنفيذ وبدون إرباك لنمط الحياة اليوميَّة للمواطن سواءً على مستوى الأحياء أو في مختلف أجزاء المدن وطرُقها. * دور الأمانات والبلديَّات في المحافظة على هذه المنظومة المعقَّدة من ناحية التشغيل، وما يتطلَّبه ذلك من تعاهد الأشجار بالري والصيانة والمعالجات الخاصة بالقص والتشذيب في بعض الأماكن. والحفاظ على عمليَّات الإحلال والإبدال والتزويد المستمر من المشاتل المخصَّصة لذلك. * دور الأمانات والبلديَّات في إشراك المواطن في هذه المبادرة الواعدة كونه شريكاً أصيلاً في التنمية ومؤتمن عليها. ولتمدُّد النطاق المكاني لأعمال التشجير ليتضمَّن الحارات والأحياء فإنَّ إشراك المواطن، بدءًا من اقتراح المبادرات الخاصَّة والتطوّعيَّة ومروراً بالمحافظة على الأشجار وتعاهدها بالرعاية والملاحظة، يُعد من الأُمور الأساسيَّة لنجاح هذه المبادرة. فمهما توسَّعت المقدرات البشريَّة للبلديَّات فلن تتمكَّن من المتابعة الدقيقة لهذه الكم الهائل من الأشجار طوال الوقت. ** ** - مركز الإدارة المحليَّة بجامعة الأمير سلطان