«أزمة الهوية في اليابان! لا اعتقد من وجهة نظري ان اليابانيين لديهم هوية في الاساس. هذه هي المشكلة. الهوية هي شيء بامكانك ان تؤسسه عندما يكون هناك آخر مختلف عنك. عند ذلك تستطيع ان تبدأ بتعريف نفسك. هنا في اليابان، جميع الناس متشابهون. الكل يقوم بالتقليد. ليس لدى اليابانيين القدرة على ابتكار القيم، وانما هم فقط يبحثون عن اشياء مصنفة وموجودة اصلا ثم يتبعونها». *** تلكم كانت اعترافات الكاتب الروائي موراكامي Murakami في قراءته للمجتمع الياباني في عصره الحديث وبيان انه يعاني من ازمة هوية identity crisis بدأت بخلخلة النسيج الاجتماعي في اليابان الحديثة كما اتضح من شواهد ودلائل كثيرة ذكرت في الحلقات السابقة من هذه السلسلة، اما هنا اليوم فسوف نحاول الوقوف على الفلسفة الروحية التي تطبقها اليابان وساهمت - بالاضافة الى العوامل الاخرى السابقة - بفقدان الهوية لدى الشباب الياباني المعاصر. مثلما ان اللغة اليابانية مستوردة من الصين وتتألف من ثلاثة اشكال معقدة، ومثلما ان اليابانيين استوردوا افكارا غربية ونجحوا صناعيا في انتاج صناعات متطورة، نجد ان اليابانيين ايضا استوردوا افكارا ومعتقدات دينية من الهندوالصين وغيرهما لاشباع حاجاتهم الروحية. هناك ثلاث فلسفات دينية ترتكز عليها الثقافة اليابانية في حياتها الروحية و هي اولا: الشنتوية Shintoism التي لا تحتوي على فلسفة دينية واضحة، كما انه لا يوجد لها اي مؤسس وليس لها اي كتاب مقدس مثل باقي الاديان الاخرى كما انه ليس لها شعائر دينية واضحة وانما يمارسها اليابانيون على هيئة احتفالات ومهرجانات تتكرر في مناسبات ثابتة كل عام يلاحظها اي زائر لليابان في كل مكان. ثانيا: استورد اليابانيون فلسفة اخرى هي البوذية Buddhism من الهند في القرن السادس الميلادي فامتزجت مع الفلسفة الشنتوية وتكونت فلسفة جديدة من انتاج اليابانيين انفسهم، كما يفعلون دائما مع اي فكرة جديدة، رغم ان هاتين الفلسفتين متناقضتين تماما وذلك من حيث ان البوذية تشمل تراثا مفصلا وشعائر دينية وتعاليم مدونة ومؤسسات معروفة، هذا بالاضافة الى ان الفلسفة الاولى تحمل طابع التفاؤل بينما الاخرى ترى الحياة مصدرا للشقاء والالم. ثالثا: لم يقتنع اليابانيون بتلك الفلسفتين وبحثوا عن فلسفة اخرى من الصين، معلمهم الكبير والدائم، واستوردوا الفلسفة الكونفوشية Confucianism التي تنادي بالسلم ونبذ الحرب واصبحت هذه الفلسفة النظام الاخلاقي الذي تطبقه اليابان. هذه الفلسفة تعتمد علي مبدأ بسيط في العلاقات الانسانية وهي احترام الصغير الكبير، والمرأة للرجل، والتلميذ للمعلم، والخادم للسيد، والمواطن للحاكم. هذه الفلسفات الثلاث والاختلاف الكبير بينها عمق ازمة الهوية في اليابان الى الدرجة التي تخلى فيها الشباب الياباني عنها واصبح بلا فلسفة او هوية، بل انه يمكن القول انها مسؤولة الى حد كبير في وجود مثل هذه الازمة التي تعصف بالمجتمع الياباني الآن، فمتى ما كانت الفلسفة الروحية التي يطبقها المجتمع تحوي عددا من المتناقضات والاخطاء فان ذلك يؤدي الى اضطراب معتنقي هذه الفلسفة وبعدهم عن الطمأنينة والامن النفسي الذي يحتاجه الانسان في حياته، وهذا ما يفسر حالات الانتحار التي تحدث في اليابان. لا يقف الامر فقط عند التباين الواضح في الفلسفات الدينية الثلاث، او حتى الاشكال الثلاثة المتباينة للغة اليابانية، اوحتى تغلغل القيم الغربية وخاصة الامريكية في المجتمع الياباني، او حتى التواجد الصارخ للثقافة الصينية في شتى نواحي الحياة في اليابان، وانما ايضا بما افرزته الثورة الصناعية التي شهدتها اليابان من منتجات تقنية وثورة في عالم الاتصالات ادت بالشباب الى الانسحاب من المجتمع والمكوث طويلا داخل غرفهم الخاصة وبعيدا عن العالم الخارجي بما فيه من تفاعل اجتماعي وحياة حقيقية. هذه الظاهرة اصطلح على تسميتها بالهيكيكوموري Hikikomori او الانسحاب عن المجتمع وهي موضوع الرواية الاخيرة لموراكامي الذي يعطي سببا آخر لوجود ازمة الهوية في اليابان حينما يقول ان اليابان، يعد تحقيقها لهدفها الوطني في بناء اليابان من جديد بعد الدمار النووي في الحرب العالمية الثانية، قد فقدت الدافعية التي وحدت الامة، فلم يعد هناك اي طريق تسلكه اليابان او اي فلسفة يمكن ان تأخذ بها. هذه الصورة الضبابية خلقت نوعا من انعدام الوزن فظهرت هذه المشكلات الاجتماعية ومن ضمنها بالطبع ظاهرة الانسحاب من المجتمع والتمركز حول الذات.