بل هنالك بعض العزاء، ولكنه عزاء بائس ومتأخر أسبوعاً كاملاً من الزمان. فبعد أسبوع من كارثة المتوسطة «31» المعروفة والتي أودت بحياة أربع عشرة فتاة جميلة وبريئة دهساً تحت الأقدام، تفضلت الإدارة العامة لتعليم البنات بمكةالمكرمة «منطقة وقوع الكارثة» بنشر نعي «عزاء» تأخر جداً وإن كان على مساحة نصف صفحة في صحيفة «الجزيرة» يوم الاثنين 4 من المحروم لعام 1423ه، ولا أعلم إن كان نفس الإعلان «العزاء» قد نشر في صحف أخرى أم أنه العزاء الوحيد؟ ولا أعلم كذلك سر الألم المشوب بسخرية الذي داخلني لحظات قراءته. إضافة إلى التأخير غير المبرر في نشره، فإن أكثر ما يؤلم في الإعلان عدم مراعاته للجانب الإنساني بتجاهل ذكر أسماء الضحايا البريئات، إلا إذا كانت الرئاسة العامة لتعليم البنات تعتقد بأن أسماء الضحايا الإناث «عورة». وقد اقتصرت الصياغة الرنانة لرسالة العزاء بالإشارة إليهن على أنهن «بناتها المتوفيات في المتوسطة 31 بمكةالمكرمة» ربما عملا بمنهج «خير الكلام ما قل ودل!» وليتهم لم يقولوا ما قالوا لأنه لم يزدنا ذلك إلا إيلاما. ولأن المساحة الإعلانية تستوعب المزيد من «الكلام»، فلا بأس من تكرار الدعوات «المكتوبة» بأن «بتعمدهن المولى بواسع رحمته وأن يسكنهن جنات النعيم وأن يلهم الجميع الصبر والسلوان وأن يمن المولى عز وجل على جميع المصابات بالشفاء العاجل»، كما ولا بأس في أن «تشكر الإدارة العامة لتعليم البنات بمكةالمكرمة كل من قدم لها العزاء والمواساة»..إلخ! كل ذلك في إعلان بحجم نصف صفحة يتعلق بإحدى أكبر الكوارث في تاريخ التعليم في البلاد. أعزيكم وأعزي نفسي مرة أخرى ببناتنا المتوفيات في المتوسطة «31» بمكةالمكرمة واللائي لم يخطر ببال إدارة التعليم مجرد ذكر أسمائهن الخالدة في عزائها الصحفي الذي بدا باهتاً وجامداً رغم محاولات أنسنته، كما أنني أعترف بعجزي عن الوصول إلى أي سبب منطقي وراء عدم تضمين أسماء الضحايا خصوصا وأن رسالة العزاء موجهة إلى ذويهن وأهلهن كما يدعي الإعلان. ألم يخطر ببال مسؤول إدارة التعليم الذي أجاز نشر الإعلان على الملأ أنه بدلا من تضمين جملة «بمزيد من الحزن والألم مقروناً بأحر التعازي وصادق المواساة» أمكن تضمين «أمل تكروني وليلى الزياني وفايزة الشنبري وأسماء الشنقيطي وشروق الشريف»؟ ألم يتساءل في نفسه عن جدوى جملة «كما تشكر الإدارة العامة لتعليم البنات بمكةالمكرمة كل من قدم لها العزاء والمواساة» في هذا المقام بالذات؟ ألم يخطر بباله أن المساحة التي شغلتها الجملة التقليدية السابقة كانت أجدر بأن نشغلها بما هو أجدى وأجمل وأشرف فيما لو استبدلناها بأسماء «فاطمة الشمراني وفوزية المقاطي ومروة المقاطي وحنان الشهري وسماح عقلان وأسماء عثمان ومروة عباس وصفاء هارون وصفاء عبد الكريم»؟. لم تكن إدارة التعليم بحاجة لأكثر من سطرين اثنين فقط لجعل العزاء أكثر إنسانية ولجعل الرسالة الإعلامية أقل فظاظة! لكن النعي بدا كما لو كان إجراء إدارياً بيروقراطياً بحتا مثله مثل إجراءات التهنئة أو الترحيب التقليدية والتي لا تتأخر أبدا مثلما تأخر نعي الفقيدات. كيف فوتت إدارة التعليم فرصة أخرى لتقديم الأسف إلى أرواح تلكم البريئات وذكراهن العطرة بنعيهن بأسمائهن الكاملة كأقل الأقل مما يمكن فعله في إطار النعي عن طريق وسائل الإعلام؟ وكيف سقطت تلكم الأسماء بينما لم تسقط جملة الشكر لكل من قدم العزاء والمواساة لإدارة التعليم وليس لذوي الفقيدات؟ أربع عشرة روحا زهقت بين ناظرينا ولم يغير ذلك شيئا في أرواحنا القاسية، بل ربما زدنا غلظة وقساوة لدرجة أننا اختزلنا ضحايانا في كلمتين هما «بناتها المتوفيات» «أي إدارة تعليم البنات بمكة» وهو ما يفي بالغرض من وجهة نظر تعليم البنات كما يبدو. لقد شعرت لوهلة بالغثيان وأنا أعيد قراءة النعي محاولا تدبر معانيه وفهم دلائله، وقد أعادني هذا الشعور إلى نفس الحالة التي كنت عليها عندما رأيت صورة لوفد الرئاسة الأنيق أثناء زيارته للمدرسة المنكوبة بينما لا تزال عباءة سوداء مجهولة ومرمية على نفس الأرضية التي يمشون عليها! سامحننا حبيبات الله فقد أهملناكن أحياء وتجاهلناكن أمواتاً، ونسينا أو تناسينا مجرد التذكير بأسمائكن. وما أجمل أسمائكن! أمل، شروق، سماح، حنان، صفاء، مروة، فايزة، فوزية، ليلى، أسماء، وفاطمة .. ما أجمل الأسماء! إن إعلاناً «بيروقراطياً» كهذا النعي الجاف لا يستحقكن، فاستحقاقكن النعيم أيتها البريئات! ولا يستحقكن أحد سوى خالقكن! üüü والآن أيها «السادة» .. أكرر: أيها «السادة» في تعليم البنات؛ لنتفق على واجبنا جميعا في رد الاعتبار لأرواح الفتيات الضحايا على الأقل وبأسرع ما يمكن، وليكن ذلك بشكل تقدير رمزي ودائم لهن وكعزاء لأسرهن المفجوعة من خلال تسمية أربع عشرة مدرسة على الأقل بأسماء ضحايا كارثة حريق المتوسطة «31» بمكةالمكرمة. ولأنني لا أعلم من أخاطب عبر صحيفة الجزيرة لتفعيل هذه الفكرة وإخراجها حالا إلى حيز الوجود الذي غابت عنه جميلاته، فإنني أتوجه بالخطاب إلى كل ذوي العلاقة بهذا الشأن، فلربما خفف ذلك من آلام فقدهن ومصيبة تجاهلهن. إن تسمية المدارس بأسماء الفقيدات هو أول وربما أسهل ما يتبادر إلى الذهن كتقدير رمزي سائد في الثقافة الإنسانية أكرر: الثقافة «الإنسانية» بشكل عام، وربما إطلاق أسمائهن الجميلة على شوارع وأزقة حي «الهنداوية» بمكةالمكرمة الذي فجع بوفاة أرق وأجمل ساكناته. لا بد وأنهن كن الأكثر رقة ومسالمة بين قريناتهن، وإلا لما سقطن أرضا وزهقت أرواحهن دهساً تحت الأقدام. وهذا الاقتراح لا يمنع بل ويحث على إقامة فعاليات أخرى تخليدا لذكرى الفقيدات مثل المسابقات الثقافية أو الفعاليات المتخصصة الأخرى كمسابقات الرسم والنحت والتصوير..إلخ، وربما مسابقة للشعر والنثر أو القصة القصيرة وربما للكتابة الإبداعية. والحديث عن الكتابة الإبداعية يستثير اقتراحا آخر للرئاسة العامة لتعليم البنات بالطلب من الطالبات التابعات للجهاز وليس أمرهن بكتابة رسالة عزاء إلى أسر ضحايا مدرسة «31»،وهو ما قد يحدث تأثيراً إيجابياً في نفسيات أفراد أسر الضحايا كما نعتقد ولكنه سيكون ألطف وأرق من العزاء إياه والذي كان محور المقال. وفي كل الأحوال، يمكن للهيئة الإدارية في المتوسطة المنكوبة الشروع فورا إن شاءت في تسمية فصل دراسي على الأقل باسم كل فقيدة على أمل أن تأخذ أسماء الفقيدات أماكنها على مداخل قاعات ثابتة وفي مبان دائمة ولو بعد حين. ولئلا نفجع مرة أخرى بكارثة من هذا القبيل كان من الممكن تلافيها، ولافتقاد الطلاب والطالبات بشكل خاص لأساسيات التعامل مع الكوارث، فإننا نعتقد بأهمية تخصيص يوم واحد على الأقل من كل عام للتوعية بالكوارث والقيام بإجراءات الإخلاء الوهمي في المدارس لضمان قدرة الطالبات على معرفة ما يجب عمله في حالات الطوارئ، بعد التأكد من عدم إقفال أي باب بالطريقة التي أقفل فيها باب المتوسطة المنكوبة. كما نعتقد إن شاء صاحب الصلاحية بأن اختيار اليوم الذي حدثت فيه الكارثة الموافق «27/12/1422ه» يوما للتوعية بالكوارث لا بد وأن يحمل مدلولات تنموية من ناحية وإنسانية من الناحية الأخرى، بالإضافة إلى ضمان عدم نسيان ما حدث وإبقاء ذكراه حية في وعينا وتاريخنا. وعندها لا بد وأن نرى تفاعلاً إعلامياً صحفياً بالتحديد مع هذا اليوم التوعوي بشكل يتناسق مع التفاعل البارز لوسائل الإعلام الصحافة المحلية تحديدا مع الحدث الأليم، وإسهاما في تحقيق التوعية بالكوارث وأفضل سبل التعامل معها. لنتذكر في الختام بناتنا الفقيدات، ونطلب الرحمة والسكينة لتلك الأجساد الطاهرة المتمددة بهدوء وسلام تحت ثرى مكة، متمنين لأخواتهن المصابات الشفاء والصحة الدائمة، ولذويهن السلوان، وللوطن أصدق تعازينا. والسلام.