مساء الاثنين الماضي ألقى الاستاذ حامد الرفاعي ورقته الهامة حول (الاسلام والحضارات الاخرى) حيث تعرض في ورقته الى وجهة النظر الاسلامية حول حوار الحضارات ويقول في هذا الشأن: هناك قواسم مشتركة في فهم معاني الحضارة بين المفكرين والعلماء من ابرزها التأكيد على الدين والقيم والثقافة كعامل اساس في تكوين الحضارة، وأحسب ان هذا الالتقاء حول كثير من معاني الحضارة ودلالاتها، يعود الى اصل وحدة تكوين نظرة الانسان، والى وحدة مصدر المهمة التي خلق من اجلها، فالناس جميعهم خالقهم واحد وربهم واحد، وكلهم لآدم وآدم من تراب، وجميعهم ورثوا بالفطرة مسؤولية امانة الاستخلاف في الارض {إنٌَي جّاعٌلِ فٌي الأّّرًضٌ خّلٌيفّةْ} [البقرة: 30] وجميعهم جاء خلقهم وتكوينهم مؤهلاً لمهمة الاستخلاف {قّالّ رّبٍَنّا پَّذٌي أّعًطّى" كٍلَّ شّيًءُ خّلًقّهٍ ثٍمَّ هّدّى"} [طه: 50] وهذا التماثل وهذه الاصول المشتركة للناس جميعا من حيث وحدة الخلقة، ومن حيث وحدة المنبت، او من حيث وحدة مصدر التكليف، او من حيث الكثير من جوانب التفكير، وكثير من جوانب مقومات السعي في الحياة الدنيا، مرده الى وحدة مصدر اصول التكوين الفطري للانسان، واحسب بالمقابل ان جوانب الاختلاف في التفكير والتصور انما تعود الى الفوارق الجوهرية التي طرأت على اصول مقومات فطرة تكوين الانسان، وعلى اصول اعداده وتأهيله لمهمة الاستخلاف في الارض، وهذا ما يشير اليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ يقول: «المولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه او ينصرانه او يمجسانه». وقولنا ان سبب الاختلاف في التوجهات والتصورات حول مفاهيم السير في ميادين الحياة، انما يعود لفوارق جوهرية، لأننا نؤمن بأن الله تعالى هو سبحانه مصدر وحدة التكوين الفطري للناس حيث اخذ عليهم جميعاً عهده الأول {وإذً أّخّذّ رّبٍَكّ مٌن بّنٌي آدّمّ مٌن ظٍهٍورٌهٌمً ذٍرٌَيَّتّهٍمً وأّشًهّدّهٍمً عّلّى" أّنفٍسٌهٌمً ألّسًتٍ بٌرّبٌَكٍمً قّالٍوا بّلّى"...} [الأعراف: 172] وذلك قبل ان تخرج سلالاتهم للحياة الدنيا، وأشهدهم على أنفسهم بأنهم عباده المنصاعون لألوهيته وربوبيته، وانه سبحانه قد ارسل اليهم رسله وانبياءه من بعد ليؤكدوا العهد الأول، بتبليغهم رسالة ربهم وتعاليمه وقيمه التي ارتضاها لهم منهجاً يلتزمونه في اداء مهمة الاستخلاف في الارض، وحيث ان كثيراً من الناس قد انحرف بهم السير عن رسالة الهدي الرباني، وتفرعت بهم السبل عن وحدة سبيل الانبياء والرسل المرتكزة على قول الله تعالى {أّنٌ \عًبٍدٍوا پلَّهّ مّا لّكٍم مٌَنً إلّهُ غّيًرٍهٍ [المؤمنون: 32]، حيث ان الكثير منهم عطل او خرج على قيم ومبادئ واخلاقيات منهج الاستخلاف في الارض {إنَّا هّدّيًنّاهٍ پسَّبٌيلّ إمَّا شّاكٌرْا وإمَّا كّفٍورْا} [الإنسان: 3] ، {ونّفًسُ ومّا سّوَّاهّا، فّأّلًهّمّهّا فٍجٍورّهّا وتّقًوّاهّا،قّدً أّفًلّحّ مّن زّكَّاهّا ،وقّدً خّابّ مّن دّسَّاهّا} [الشمس: 7 10] اجل إن مثل هذا الخلل الذي اصاب وحدة التنشئة البشرية ولحق بأصل وحدة الاعتقاد الذي هو اساس صحة وسلامة التنوع والتعددية المنهجية، في اطار وحدة المنهج الرباني هو الذي افرز هذا الاختلاف {وأّنزّلًنّا إلّيًكّ پًكٌتّابّ بٌالًحّقٌَ مٍصّدٌَقْا لٌَمّا بّيًنّ يّدّيًهٌ مٌنّ پًكٌتّابٌ ومٍهّيًمٌنْا عّلّيًهٌ فّاحًكٍم بّيًنّهٍم بٌمّا أّنزّلّ پلَّهٍ ولا تّتَّبٌعً أّهًواءّهٍمً عّمَّا جّاءّكّ مٌنّ پًحّقٌَ لٌكٍلَُ جّعّلًنّا مٌنكٍمً شٌرًعّةْ ومٌنًهّاجْا ولّوً شّاءّ پلَّهٍ لّجّعّلّكٍمً أٍمَّةْ واحٌدّةْ ولّكٌن لٌَيّبًلٍوّكٍمً فٌي مّا آتّاكٍمً فّاسًتّبٌقٍوا پًخّيًرّاتٌ إلّى پلَّهٌ مّرًجٌعٍكٍمً جّمٌيعْا فّيٍنّبٌَئٍكٍم بٌمّا كٍنتٍمً فٌيهٌ تّخًتّلٌفٍونّ} [المائدة: 48] ، وهذا النص يؤكد من جهة اخرى بأن الاختلاف بحد ذاته ليس ظاهرة سلبية بقدر ما هو عملية ايجابية، يوم يكون هذا الاختلاف وهذا التنوع يدور في اطار وحدة الهدف وعلى اساس من وحدة المنهاج الرباني العام، ويوم يكون هذا التنوع ايضاً متسقاً مع مقومات ومقاصد امانة الاستخلاف في الارض وفق ارادة الله تعالى، اما يكون هذا الاختلاف وهذا التنوع مصدره النكوث بالعهود مع الله تعالى، ومصدره الخروج على منهاج الله الذي رسمه لعباده للنهوض بمسؤوليات امانة الاستخلاف في الارض، فان مثل هذا التنوع ومثل هذه التعددية غالباً ما تكون مصدراً للاختلاف والتضاد، ومصدراً لاضطراب مناهج السير في عمارة الارض، ومصدراً كذلك لخلل كبير في صيغة فهم تنوع الثقافات والسلوكيات، مما يولد مصدراً لأسباب عدم الانسجام والاتساق بين اهداف وغايات ومصالح مجتمعات الاسرة البشرية الواحدة.. وهذا مما يجعل الثقافات متفاوتة في طبيعة خدمتها في ميادين الانتاج الحضاري.. حيث ان نوع الانتاج الحضاري ومرتبة الابداع الحضاري، مرتبطة تمام الارتباط بطبيعة الثقافة ومقوماتها وقيمها ونظرتها للكون والانسان والحياة.. وان الثقافة تبقى العامل الاساس في تحديد هوية الحضارة ومضامينها القيمية والسلوكية، لأن الشق المادي من أي حضارة هو شق محايد، فالمادة باعتقادنا نحن المسلمين محايدة في ادائها وعطائها بين يدي الانسان، باعتبارها مسخرة له لتسهيل مهمته بالنهوض بأمانة الاستخلاف الرباني لعمارة الارض.. وفي اطار العبودية المشتركة لله تعالى، حيث ان الكون كله باعتقادنا في عبادة الله تعالى إلا من أبى من الناس، كما يؤكد ذلك قول الله تعالى {تٍسّبٌَحٍ لّهٍ پسَّمّوّاتٍ پسَّبًعٍ والأّرًضٍ ومّن فٌيهٌنَّ وإن مٌَن شّيًءُ إلاَّ يٍسّبٌَحٍ بٌحّمًدٌهٌ ولّكٌن لاَّ تّفًقّهٍونّ تّسًبٌيحّهٍمً إنَّهٍ كّانّ حّلٌيمْا غّفٍورْ} [الإسراء: 44) {أّلّمً تّرّ أّنَّ پلَّهّ يّسًجٍدٍ لّهٍ مّن فٌي پسَّمّوّاتٌ ومّن فٌي الأّرًضٌ والشَّمًسٍ والًقّمّرٍ والنٍَجٍومٍ والًجٌبّالٍ والشَّجّرٍ والدَّوّابٍَ وكّثٌيرِ مٌَنّ پنَّاسٌ وكّثٌيرِ حّقَّ عّلّيًهٌ پًعّذّابٍ ومّن يٍهٌنٌ پلَّهٍ فّمّا لّهٍ مٌن مٍَكًرٌمُ إنَّ پلَّهّ يّفًعّلٍ مّا يّشّاءٍ} [الحج: 18] وهنا تتجلى لنا حكمة الله تعالى وفضله وعدله، أن جعل المادة موحدة في عبادتها، حيادية في اداء رسالتها الحضارية للناس، لا تستعصي في عطائها على ثقافة ما او سلوكية ما، فهي تؤدي كامل مكنوناتها للكافر مثلما تؤديها للمؤمن او المسلم سواء بسواء، لاتنحاز لأحد دون أحد، ولا تستعصي إلا على الجهل والجاهلين وعلى الكسالى والتنابل، أياً كانت هويتهم الدينية أو العرقية أو القومية أو الجنسية أو اللونية، أما من يسعى إليها بالعلم والمهارة والجد والمثابرة، فإنها تستجيب له وتتفاعل مع غاياته ومقاصده لا فرق عندها ان يكون العالم مصلحاً او مجرماً، غنياً أو فقيراً، امرأة أو رجلاً، مؤمناً أو كافراً، قوياً أو ضعيفاً، فهي للجميع على أساس من شرط العلم والمهارة، والثقافة والبحث والجد والمثابرة، فهي لكل من طرق ابوابها واجتهد في الغوص في بحور مكنوناتها وكنوزها، وهذا هو العدل الرباني المطلق.. لأن الله سبحانه وتعالى عندما استخلف الانسان في الأرض، استخلفه بصفته إنساناً مكلفاً، تصدى لحمل أمانة الاستخلاف في الأرض {إنَّا عّرّضًنّا الأّمّانّةّ عّلّى پسَّمّوّاتٌ والأّرًضٌ والًجٌبّالٌ فّأّبّيًنّ أّن يّحًمٌلًنّهّا وأّشًفّقًنّ مٌنًهّا وحّمّلّهّا الإنسّانٍ إنَّهٍ كّانّ ظّلٍومْا جّهٍولاْ} [الأحزاب: 72]، فالتكليف الرباني جاء مطلقاً لجنس الانسان، بصرف النظر عن طبيعة ايمانهم او معتقدهم او ثقافتهم، وهذا من أرقى وأكمل درجات الإكرام، مثلما هو أرقى وأكمل مراتب العدل والإنصاف {مّن كّانّ يٍرٌيدٍ پًحّيّاةّ پدٍَنًيّا وزٌينّتّهّا نٍوّفٌَ إلّيًهٌمً أّعًمّالّهٍمً فٌيهّا وهٍمً فٌيهّا لا يٍبًخّسٍونّ، أٍوًلّئٌكّ پَّذٌينّ لّيًسّ لّهٍمً فٌي الآخٌرّةٌ إلاَّ پنَّارٍ وحّبٌطّ مّا صّنّعٍوا فٌيهّا وبّاطٌلِ مَّا كّانٍوا يّعًمّلٍونّ} [هود: 15 16] وبهذا يتجلى لنا أيضاً الفضل الأكبر والأسمى من الله تعالى أن جعل المادة حيادية الأداء والعطاء، لتبقى مهمة الاستخلاف والنهوض بأمانتها متاحة لكل الناس بدون استثناء، ولتبقى المادة مسخرة للجميع، تفتح خزائنها لكل من يحسن التعامل مع مفاتيحها، وتقدم كنوزها لكل من يمتلك مهارة تفعيل مكنوناتها، ومن جهة اخرى فإن حرمان المادة من حق الاختيار جاء بحد ذاته نعمة كبرى من الله تعالى للانسان والخلائق جمعاء، تصوروا كم ستكون الكارثة لو ان المادة اعطيت حق الاختيار في اداء مهمة التسخير التي كلفها بها ربها جل شأنه تجاه الانسان وباقي الاحياء، ثم انحازت باختيارها لمجتمع ما او جهة ما من الارض، ولعلكم تتصورون كم تكون الكارثة مثلاً لو ان الهواء اعطي حق الاختيار في اداء مهمته، ثم انحاز بمهمته لقوم دون غيرهم او لجهة من الارض دون غيرها، ويمكنكم كذلك ان تتخيلوا ماهي حالة الناس وجميع الخلائق، وماذا سيطرأ على حركة الكون لو ان الماء أعطي حق الاختيار، ثم انحاز بمهمته الربانية {وجّعّلًنّا مٌنّ پًمّاءٌ كٍلَّ شّيًءُ حّيَُ} [الأنبياء: 30] ، لصالح قوم دون غيرهم او لقارة من القارات دون غيرها او لأي جهة من الأرض دون غيرها، سبحانك ربي ما اعظم شأنك وما أجمل حكمتك.. سبحانك انت اللطيف، الخبير، العليم، المدبر، الحكيم، لا إله إلا أنت.. ومن هنا تتجلى لنا حكمة التسخير المطلق للمادة لتكون في خدمة الانسان بدون استثناء، ولتكون فاعلة بين يديه للنهوض بأمانة عمارة الأرض، وبهذا التسخير المطلق للمادة للناس جميعاً، يعطي الله تعالى الفرصة للتنافس بين الناس، مثلما يعطي الفرصة لتكامل القدرات والمهارات البشرية من اجل النهوض بعمارة الأرض، وهذا يأتي متسقاً مع حكمة الله تعالى، وقد خلق الناس بقدرات متفاوتة ومهارات متفاوتة وبأرزاق وثروات متفاوتة لتقوم قاعدة الحاجة بينهم، للنهوض معاً بمسؤوليات عمارة الأرض ومسؤوليات إقامة العدل، وبغير هذا التنوع بالقدرات والكفاءات وبغير التنوع بالثروات ومصادر الطاقة والحاجة لما قامت اسباب التكامل والتعاون بينهم، ولتعطل من بعد واجب النهوض المشترك بمسؤوليات عمارة الارض. وعلى أساس من ذلك تتضح فلسفة وجوهر نظرة الانسان المسلم للكون، وتتحدد كذلك وجهة نظره نحو طبيعة العلاقة بين المسلم والخلائق من حوله.. والتي هي علاقة الأداء المشترك لإنفاذ إرادة الله في عمارة الأرض، إنها علاقة الطاعة والعبادة الخالصة لله تعالى في محاريب الكون المتنوعة.. فالكل في عبادة.. والكل في تسبيح وتبتل.. والكل في واجب النهوض بعمارة الأرض.. والكل في اتساق وتعاون من أجل أرقى وأكمل درجات الابداع الحضاري، بين يدي الغاية الكبرى المتمثلة في طاعة الله.. وتحقيق كرامة الانسان واقامة العدل في الأرض {ولّقّدً كّرَّمًنّا بّنٌي آدّمّ وحّمّلًنّاهٍمً فٌي پًبّرٌَ والًبّحًرٌ ورّزّقًنّاهٍم مٌَنّ پطَّيٌَبّاتٌ وفّضَّلًنّاهٍمً عّلّى" كّثٌيرُ مٌَمَّنً خّلّقًنّا تّفًضٌيلاْ} [الإسراء: 70] ويوم تعتل هذه النظرة وتختل هذه العلاقة بين الانسان والخلائق من حوله، ويوم تخرج مسيرة حركة الانسان في الكون عن طبيعة هذه العلاقة التي رسمها خالق الكون ومدبر أمره، تختل معه وتعتل ثمرات السير الحضاري للإنسان في الأرض، وبقدر ما تعتل وتختل هذه العلاقة، بقدر ما ينتاب ويعتري ثمرات الجهد البشري العيب والخلل والفساد {ظّهّرّ پًفّسّادٍ فٌي پًبّرٌَ والًبّحًرٌ بٌمّا كّسّبّتً أّيًدٌي پنَّاسٌ} [الروم: 41] والعلاقة بين الانسان والكون تحددها عادة وترسم مسارها وسلوكياتها ثقافة الانسان التي تربى بموجبها، وصيغت معاييره السلوكية على اساس من عقيدتها وقيمها وتقاليدها، وحيث ان الناس اليوم ومن قبل على تنوع في الاعتقاد، وعلى تنوع في الثقافات، وعلى تنوع في الفلسفة والنظرة للحياة والكون، جاء على اساس من ذلك التنوع في التعددية الحضارية، وبرزت في اطار التعددية الحضارية تعددية قيم ومبادئ وسلوكيات الاداء الحضاري بين الناس بكافة وبين المجتمعات الدولية بخاصة، وأحسب ان الخطورة التي تواجهها المسيرة الحضارية في الارض اليوم مصدرها التناقضات الثقافية والمعايير المضطربة والسلوكيات الشاذة في الاداء الحضاري، ومردها الى التدهور الاخلاقي والقيمي في ميادين استثمار وتوظيف العطاء الحضاري المادي، والذي كما اوضحنا من قبل هو عطاء حيادي، فالمادة ليس لديها إلا الخير ولم تسخر بين يدي الانسان إلا لخير، ولكن سلوكيات الانسان وقيمه واخلاقياته هي التي تحدد وترسم سلوكيات وأخلاقيات استخدام العطاء الحضاري واستثمار وتوظيف الناتج الحضاري، ومن هنا يبرز جوهر العلاقة بين الشق المادي للحضارة وهوية شقها الثقافي الذي انتجها، فالثقافة بوجهة نظرنا هي المسؤولة عن كفاءة ومهارة وحوافز الانسان في عملية الانتاج الحضاري، مثلما هي المسؤولة عن سلوكياته وقيمه في توظيف واستثمار الناتج الحضاري، والمعيار الدقيق في الحكم على ايجابية ثقافة ما وعلى صحة وايجابية علاقتها بالشق المادي في حضارة ما، هي درجة ومساحة الكرامة والعدل، وسلامة البيئة والمصالح العامة التي يتمتع