ليست العمارة إلا استجابة مادية وذهنية لحاجة من حاجات الإنسان القديم. فعادة ما يميل الإنسان إلى الكسل، ولا يسيّره إلا حاجته لرغبة ما، أو خوف من.. وانطلاقا من هذا المفهوم نجد أن الإنسان استجاب لحاجته للحماية ثم الاستقرار في عصر مبكر بالرغم من القول إن العمارة أتت لاحقًا. فمن المعلوم أن العمارة تشتمل على مقومين، هما: إنشائي وتصميمي. نجد استنادًا إلى الاكتشافات الأثرية أن الإنسان في أوائل عهده كان يجمع القوت، ويصيد ما يوجد في الأماكن ذات الغطاء النباتي الكثيف والمياه الصالحة للشرب. وفي تلك الأماكن لجأ إلى مأوى توجد من خلاله الاستفادة من الأشجار؛ إذ يوجد أنواع من الأشجار تتكور على نفسها مكونة ما يشبه الأكواخ؛ فيعمل الإنسان على تهيئتها بتبطين جوانبها الداخلية السفلية، وإضافة مواد من جلود الحيوانات على سطحها؛ لتمنع تسرب المياه، فيلجأ إليها كمكان إقامة في أوقات الحاجة. كما استفاد من الشقوق الجبلية التي يؤهلها عن طريق إضافات بسيطة، كرص بعض الكتل الحجرية، أو ربما وظّف الأخشاب مكانها. بعد ذلك لجأ الإنسان إلى استخدام المغارات والكهوف الجبلية، بعدها استفاد من الكهوف ذات الأحجام الكبيرة، وذلك بتاريخ يرقى إلى ما قبل 10.0000 عام، أو ما يعرف بالعصر الحجري القديم الوسيط عندما استخدم الكهوف الضخمة التي قد يستوعب بعضها مجموعات بشرية، مثل كهف نياندرتال في ألمانيا، والشانديرا في العراق، وكهوف فرنسا وإسبانيا التي استقر الإنسان فيها استقرارًا شبه دائم قبل أكثر من 12000 عام؛ إذ عُثر على مواقده، ورسومات متعددة لحيوانات بحرية وبرية، ومشاهد صيد حيوان الرنة والخيول البرية. ولا شك أن هذا يعكس المرحلة المتقدمة التي وصل إليها الإنسان في معارفه. ومع الوقت تطور الإنسان في خصوصيته؛ فقسّم الكهوف إلى أقسام؛ ليقيم فيها بنظام الأسرة. وبدأت فكرة إقامة المستوطنات التي حتمت التغيّرات المناخية اللاحقة ضرورتها وحضورها وتسارعها، فبدأت من العصر الحجري الوسيط إلى وقتنا الحاضر. بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية توجد أدلة عديدة، تؤكد لجوء الإنسان إلى الأماكن الطبيعية كمستقرات منذ عصور موغلة في القدم، فإذا أخذنا أقدم المواقع، وهو موقع الشويحطية في منطقة الجوف، وتمعنا في بيئته المكانية، نجده عبارة عن وادٍ فيه نهيران ينطلقان من جبال، يُعتقد أنها كانت مكسوة بالثلوج، وينتهيان في بحيرة ضخمة؛ وهو ما يعني وجود غطاء نباتي وحيواني؛ جذب الإنسان. وأسفرت الدراسة الجيولوجية للمحيط المكاني عن العثور على كهوف وفجوات جبلية، لجأ إليها الإنسان الذي عاش حول تلك البحيرة خلال زمن يعود إلى العصور الحجرية. والمثال الآخر نجده في العصر الحجري القديم متمثلاً في مواقع وادي صفاقة بالدوادمي. وأفادت الدراسات الجيولوجية بأنها تقوم على مساطب بحيرة قديمة، كانت تغذَّى بالماء من نهير تنطلق روافده من سلسلة جبلية قريبة من تلك البحيرة. وفي تلك السلسلة عُثر على كهوف ومغارات جبلية، يمكن أن يكون الإنسان قد أقام فيها خلال فترات تجبره فيها الظروف الطبيعية والمناخية على أن يلجأ إليها. وفي العصور اللاحقة من المؤكد أن الإنسان استفاد من هذه الكهوف الموجودة في المملكة؛ إذ عُثر على العشرات منها، التي يمكن أن تصنف إلى نوعين، هما: الكهوف المجردة من الفنون الصخرية: تتمثل في كهوف ضخمة، مثل كهف الرويضة على سبيل المثال (يقدر استيعابه بنحو 3000 شخص). وكهوف خيبر، وكهوف منطقة وادي الدواسر، وكهف نعام في حوطة بني تميم، وكهوف جبل قارة في الأحساء، وكهوف شعيب (مغاير شعيب) في موقع قرية في شمال المملكة العربية السعودية بمنطقة تبوك. والكهوف ذات الرسوم، لعل من أميزها كهف القويع في حوطة بني تميم الذي عثر فيه على 23 لوحة مرسومة باللونين الأحمر والأسود، وكهف برمة الذي يقع على بعد40كم إلى الشمال الشرقي من مدينة الرياض، وفيه عثر على نقوش قديمة بالقلم المسند، وكهوف أبها التي تحتوي على رسوم باللونين الأحمر والأسود، وكهوف السليل العديدة التي عثر فيها على كتابات ورسوم صخرية ورسوم ملونة، وكهوف وادي فاطمة، وغيرها. وعليه نجد أن الأماكن المهيأة طبيعيًّا في زمن لجوء الإنسان إليها تماثل في المملكة العربية السعودية نظيراتها في العالم القديم. وبعد أن استقر الإنسان نجد أن أقدم الدلائل على وجود منشآت ثابتة تظهر في مستوطنة عين قناص العائدة إلى فترة عصر العبيد بتاريخ يرقى إلى نهاية الألف السادس قبل الميلاد. وهذا تاريخ أقدم المستوطنات الدائمة في العالم القديم. ** **