1- يتفق مفكرو أوروبا على أن «الحداثة» بدأت مع مطلع القرن التاسع عشر.. وانتهت مرحلتها الأولى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في منتصف القرن العشرين.. ثم بدأت بعدها مرحلة «ما بعد الحداثة».. وها هي تودع وتعلن عن مخاض مرحلة عصر جديد. 2- العصر الجديد الذي نعيش إرهاصاته يقوم على الفردانية.. والفردانية ترتكز على التعدد لا الوحدة.. بمعنى تعدد الأفكار والأيديولوجيات.. والنظر إلى «الوحدة» مثل وحدة الأفكار والسياسات والقوميات والأيديولوجيات على أنها إشكالية.. وفي العالم الجديد سيتم ترسيخ فكر الفردانية الذي يرفض الشمولية كما يرفض السلطة الاجتماعية.. كل ذلك يكون مصحوباً بنزعة نقدية تشكك في كل شيء. 3- اتسم العصر الحديث وما بعده بالسرعة.. فإذا كانت العصور القديمة امتدت آلاف السنين والعصور الوسطى امتدت مئات السنين.. فقد امتد العصر الحديث مائة وخمسين سنة.. ونحن نعيش اليوم نهايات عصر «ما بعد الحداثة» الذي مضى منه سبعون سنة فقط.. ونحن مقبلون على زمن ميلاد عالم جديد بمستقبل مختلف نوعياً عن الحاضر وجذرياً عن الماضي.. هذا الاختلاف سوف يبزغ دفعة واحدة وسنجد أنفسنا فجأة أمام هذا العالم الجديد.. فقد أدت جائحة «كورونا» إلى اختزال المراحل.. والعالم كله سوف ينتقل بسرعة كبيرة إلى حالة جديدة من الحداثة. 4- يرى «هيدجر» أحد كبار المنظِّرين لمرحلة «ما بعد الحداثة» أن التقنية هي جوهر الحداثة.. ويفرد لها مكانة متميزة في قيامها وقيام كل الحداثات التي ستتلوها تباعاً وبسرعة شديدة.. وأن التقنية بذاتها سوف تولِّد الحاجات والمقومات التي ستمكنها من بسط سيطرتها على الحياة.. لكنها مع الأسف ستكون الأداة التي ستُمَكِّن الحكومات ذات النزعة الشمولية من التحكم سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.. كما ستمكِّنها من التحكم بالناس عن بعد ومراقبتهم حتى في أقرب خصوصياتهم. 5- إن ما نسميه اليوم بالحداثة سوف يعد بمقاييس الغد تخلفاً لا يبتعد كثيراً عن تخلف القرون الوسطى مقارنة بمستوى الحداثة اليوم.. فالتقنية هي التي ستتسيد المشهد كاملاً.. وبقدر ما ستخدم الإنسان فإنها ستتحكم به.. لذا صار لزاماً على الإنسان الإعلاء من قيمة الإنسان وإلا راح ضحية للتقنية. 6- الفردانية التي تقوم عليها الحداثة سوف تواجه تحدي الاستفادة من التقنية كداعم لحداثة الإنسان في تحرره وتقدمه لا مقيداً لحركته أو مراقباً لأفكاره.. التقنية هي المهدد الوحيد لحرية الإنسان إن لم يجيد التحكم بها وتوجيهها.