فيما كنتُ أرنو إلى رفوف مكتبتي، أفكر في كل شيء بوقت واحد، وقعت عيني على عنوان ديوانه الشعري «نهر بين جنازتين»، فإذا بالعنوان يشتت الأفكار هباء منثورًا، ولم أجدني إلا أهتف قائلة: لو كنتُ رسامة لرسمت لوحات من عناوين بنّيس! لم أنهِ حتى اليوم قراءة كامل المكتبة التي وضعها بنيس لنا في مؤلفاته، لكني قرأت منها ما يكفي لأن لفت انتباهي إلى أن عنوناته محبوكة بذكاء بليغ، يقولب به دلالة الفصل في عنوانه، دلالة الكتاب في عنوانه. وللحديث عن ذلك اخترت كتابه «يحرقون الحرية». يتحدث بنيس في هذا الكتاب عن شبان الربيع العربي، الذين خرجوا في بادئ الأمر متشدقين بالحرية، لكن انحرف المسار إلى غير ما خرجوا لأجله، وانتهى المطاف بالنقيض تمامًا: احتراق الحرية! وبالرغم من أن النتيجة كانت ظاهرة حين كتابة بنيس الكتاب، وهي احتراق الحرية، إلا أنه لم يعنون العنوان بالمصدر «احتراق» بل عنونه بالفعل المضارع «يحرقون»، وهنا تحديدًا يتجلى ذكاء العنونة، حيث إنه في كتابه لم ينتقد النتيجة بقدر ما ينتقد الفاعل الذي تسبب في النتيجة، وعلى ذلك كانت عنونة الكتاب منوطة بفعل الفاعل «يحرقون». أضف إلى ذلك أنه من الصعب الحكم على النتيجة بأنها اقتفلت، فكان من المناسب التعبير عنها بديمومة الآنية في الفعل المضارع. وأخيرًا فإن الالتفات الزمني من المصدر إلى آنية الفعل المضارع نقل مشهد الحدث أمام القارئ. ولأن بحرق تلك الحرية مشاهد، تجسد حرق الكرامة الإنسانية، تمتد دلالة عنونة الكتاب إلى عنوان المقدمة «الحرية، الكرامة»؛ فالفاصلة بين الكلمتين يتبين أنها بمنزلة النقطتين الرئيسيتين الدالتين على التعريف. وبرأيي إن كلمة من الكلمتين هي تعريف للثانية؛ فالحرية تعريف للكرامة، والكرامة تعريف للحرية، وهذا ما يدل عليه مضمون المقدمة.. يقول: «حق تتآلف فيه الحرية مع الكرامة. ذلك هو إبداع هذه الحركة التي ارتدت لباس الثورة على الأنظمة والمؤسسات، جنبًا إلى جنب في بعض الحالات. حركة أعادتنا إلى البدئي، إلى الصوت الذي يطالب بما هو طبيعي في مجتمعات عربية غير طبيعية؛ لأن أنظمة الحكم فيها لا تعترف بحرية الإنسان، ولا بكرامة الإنسان، كما أن مؤسساتها امتداد للأنظمة في احتقارها للمواطن وتصرفها الاستبدادي معه». يقسِّم بنيس كتابه إلى ثلاثة فصول، في كل فصل محاور، وقبل أن أشرع في تبيان دلالة عنوان كل محور، وارتباط المحاور ببعض، وأخيرًا ارتباطها بفصلها، سأقف على تبيان دلالة الترابط بين عناوين الفصول الثلاثة. عنوان الفصل الأول «شعلة الأيام» والثاني «أمام الأنقاض»، أما الثالث ف»في الهواء الطلق». سبق أن أوضحت مشهد الربيع العربي، وبقي الآن أن أنزل المشاهد منازلها في العنونات. فإن بنيس قد أوضح أن بداية حركة الربيع جاءت متشدقة لحرية الكرامة، التي قد ضاعت في الظلام الدامس. ولأنها انبثقت بقوة الاحتجاج فقد اندفعت، كما يدفع المنجنيق الحجر من الظلام الأسود إلى النور الأبيض. لكن أين البياض المناقض للسواد في العنوان؟ استخدم بنيس كلمة «شعلة»، وقد جاء في لسان العرب: أن الشعلة البياض في ذنب الفرس أو ناصيته، وإذا خالط البياض الذنب في أي لون كان فذلك الشعلة. الآن تتضح دلالة العنوان التي تمثل النقيض بين الظلام الأسود الذي خرجت منه حركة الربيع، والنور الأبيض الذي اقتحمته. كما أن النور والبياض منسجمان مع الربيع، الذي تسمت به هذه الحركة. وما يحيرني هو إذا كان بنيس عمد عمدًا لاختيار كلمة «الشعلة»؛ لتدل على دلالتها السابقة، أم إذا كانت تلك سليقة الشعراء التي تتناغم مع الطبيعة دون تكلف، فيجد أحدهم اللغة تخرج منه كالنور، وتنزل في أماكن المعنى المرام! وشبيه بهذه الحيرة تساؤل يحيرني: لماذا اختار «الأيام»؟ ورأيي الذي ذهبت إليه؛ لأن حركة الربيع في شعلتها اندلعت وانطفأت بأيام! انطفأت بأيام، فزجت بنفسها أمام الأنقاض، هاوية في السحيق، بعد الأحلام الجسام التي طارت بها في أعالي السماء في شعلة الأيام. ولأنها جاءت في بادئ الأمر بهدف الحرية، لكنها رُكِلت خلف الأنقاض، بقي لها أن تتحرر في نهاية المطاف بروحها في الهواء الطلق! وضع بنيس في الفصل الأول ثلاثة محاور، وفي الثاني عشرة، وفي الثالث ثلاثة أيضًا. وبرأيي إن هندسة التقسيم ينطوي تحتها تنظيم دقيق، مرتب بعناية؛ فالفصلان الأول والثاني متساويان في المحاور، وكلاهما لم يمثل إلا وقتًا قليلاً من حركة الربيع، مقارنة بالوقت الذي قضته أمام الأنقاض؛ فالفصل الأول يمثل الأيام، التي سرعان ما انطفأت شعلتها، والأخير يمثل حالة الروح الهاربة في الهواء الطلق، أما الفصل الثاني فيمثل المرحلة التي حملت على عاتقها مرحلة احتراق الحرية، فأخذت القسم الأكبر، كما أن الفصلين الأول والثالث محاورهما فردية العدد، وبالتساوي نفسه، ثلاثة محاور في كل فصل، أما الفصل الثاني فمحاوره زوجية العدد؛ فأعطى الكتاب انسجامًا متناغمًا من فردي إلى زوجي إلى فردي، كما أن عدد محاوره عشرة، والعشرة تمثل اكتمال فئة العشرات، مما دلت على تمام الفصل. في محاور الفصل الأول تتبع حركة اشتعال الثورة تاريخيًّا كما حدثت في الواقع؛ فكان المحور الأول بعنوان «كلمات الثورة» الدال على تصدير الأفكار بواسطة اللغة «كلمات» قبل انتقالها إلى حلبة الأفعال في عنوان المحور الثاني «مع ثورة الشبان في مصر» الدالة على انتقال حركة الربيع من اللغة إلى الفعل. ويختم المحور الأخير بما وصلت له حركة الربيع جغرافيًّا في سوريا. وبالرغم من أن لا شيء يدعو للاطمئنان إزاء الأوضاع السورية إلا أن بنيس يعنون محوره الأخير المتعلق بسوريا ب»سوريا، حريتك»؛ فيدل العنوان على التضامن مع كرامة الإنسان الواقفة على أرض تهافتت من تحتها! أما الفصل الثاني فيعنون محوره الأول ب«الإسلاميون والاختيار الثقافي» متحدثًا به عن المآل الذي انحرفت إليه حركة الربيع في اختيار الإسلاميين للنوع الثقافي. ثم يعود بالخط الزمني في عنوان المحور الثاني «الثقافة ومعنى الثورة التونسية» محاولاً أن يوضح بهذا المحور معنى الثورة التي سمى الشعب التونسي نفسه بها حين نزل إلى الشارع، التي منها بدأت حركة الربيع. ويتجلى تأزم الحركة وانحرافها عن مقصدها التي خرجت لأجله في عنوان المحور الثالث «الثقافة ومحاكم التكفير» الذي برع به بنيس في تصوير تصدع التأزم الثقافي؛ إذ إن هذا العنوان على سياق «محاكم التفتيش»، فإذا كانت هذه الأخيرة تمثل التعنيف الجسدي فإن الفكر بمكانه في العقل، وبصياغة العنوان على سياق «محاكم التفتيش» فإنه دل على التعنيف الفكري، الذي يقابل بالتكفير كل فكرة حرة! ولأجل ذلك يعود بنيس في هذا الصدد ب«ذكرى ثورة طه حسين» معنونًا بها محوره الرابع، مذكرًا بالأفكار الحرة التي جاء بها طه حسين، وما أثارته في الوسط العربي، ويتجلى ذكاء العنونة باختياره كلمة «ثورة»، الكلمة نفسها التي خرج بها الشعب التونسي، وبها بدأت حركة الربيع. هكذا نلاحظ حركة الربيع وهي تنزل من السلم تدريجيًّا من شعلة الأيام إلى النزول درجة درجة عبر عناوين محاور الفصل الثاني، حتى إذا ما انتهينا من أربعة محاور في هذا الفصل ابتعدت بها حركة الربيع عن بدايتها. وقفنا في منتصف الحركة مع منتصف الفصل في المحور الخامس، فإذا بنا نجد عنوانه «وردة الحب في زمن الحرب». يجسد هذا العنوان البديع الواقع في منتصف الفصل مرحلة الانتصاف لحركة الربيع، بين كونها خرجت من الأرض وردة ربيع، فإذا بها تجد نفسها خرجت على أرض حرب، ويتجلى تصوير مرحلة انتصاف حركة الربيع، في التصوير المجازي للعنوان، الذي يصور نقيض الحياتين بين حياة وردة الحب وحياة زمن الحرب، لكن حركة الربيع جمعت النقيضين على أرض واحدة، ففيما الدمار الرمادي والبنيان المتهدم، وأدخنة النار تتصعد السماوات، وشراراتها الحمراء تنتشر بالمكان، وكل مظاهر الحياة فقدت الحياة، هناك يوجد وردة وحيدة، وليست أي وردة، وردة حب، لا على أرض حرب، ستدهس، بل في زمن، ليس أي زمن، زمن حرب، الحرب التي لا تندلع إلا من الكراهية، يوجد بقلبها وردة حب! ونقل الوردة من الأرض إلى الزمن، نقلها من دهس المدافع والذبول إلى بقائها في النفس، التي كلما نظر إليها الإنسان في هذه الحرب أعطته أملاً في عودة الحياة! ثم تستمر حركة الربيع في نزول درجات السلم، مع عنوان المحور السادس «الأفق الأصعب للثقافة العربية». ويتجلى ذكاء العنوان في اختيار كلمة «الأفق»؛ وذلك أن حركة الربيع كلما نزلت درجة من السلم ضاق أفقها، وضاق عليها النفس، وضائقة الثقافة العربية التي وصلت إليها، تجلت في عنوان المحور. ولأن الثقافة العربية وصلت إلى هذا الأفق الضيق لم يتبقَّ أمامنا إلا الأسئلة عن المآل الذي ستؤول إليه، وبذلك يعنون بنيس الفصل التالي بسؤال: «أي وعد لأيامنا؟». وكما أشار بنيس في المحور الأول من هذا الفصل بأن حركة الربيع انحرفت لصالح الإسلاميين في اختيار النوع الثقافي، فإن الإجابة عن عنوان المحور السابق تتجلى بعنوان المحور الثامن «تضخم الديني»، هذا العنوان الذي ابتكره بنيس نفسه موضحًا قصده به في قوله: «أستعمل كلمة (الديني) تمييزًا لها عن الدين، مثلما كان عليه من قبل استعمالي كلمة الثقافي أو السياسي. توضيح يسمح بالخروج إلى ما يلحق الدين من غير تطابق قسري بينهما. لا شك أن تحديدًا كهذا لا ينجو من التباسات، أعترف قبلاً بها، لكن الالتباسات تزول بقدر ما ننخرط في التأمل والتفكير». وبعد أن يقدم الإجابة عن عنوان المحور السابع، بعنوان المحور الثامن، يعود في المحور التاسع بصياغة العنوان على سؤال، لكنه هذه المرة ليس سؤالاً ينتظر إجابة، بقدر ما هو سؤال أسفي تأملي، يعنون المحور التاسع بالسؤال: «بأي قوة نحمل هذا اليأس؟». وتبرع بلاغة العنوان في استعارته صفة الوزن لليأس؛ فاليأس ليس مادة ولا وزن له، في حين أن الحمل يعني حمل مادة. وبما أن حمل هذه المادة يتطلب قوة صاغها بنيس بالعنوان، من جهة، وبما أن اليأس لا وزن له بالواقع، من جهة أخرى، فإن العنوان يفتح المجال أمام أبعد وزن لليأس يمكن للقارئ يتخيل أن الأمة العربية تحمله! وكما أنه بدأ محوره الأول في الفصل الثاني بسيطرة اختيار الإسلاميين فإنه يختم محوره العاشر في الفصل بعنوان «من أجل المسيحيين العرب» فيكمل بذلك اكتمال دائرة الفصل العشري، بتطابق فائق التنظيم. وفي فصله الأخير أمل روح في التحرر إلى الهواء الطلق، وصوت ينادي إلى ذلك، هذا الصوت الذي يتجلى في عنوان المحور الأول «العودة إلى الأدب» مشيرًا بنيس بذلك إلى إمكانية رفع الصوت من جديد، من أجل الاعتبار لمكانة الأدب العربي. ثم يعرج على وضع الثقافة العربية في عنوان محوره الثاني «المركز الثقافي عربيًّا: بين وهم السلطة والحنين إلى الامتياز».. مشيرًا بهذا المحور إلى أن المركز الثقافي في الوطن العربي كان بالقاهرة، ثم ببيروت، أما اليوم فلا يوجد مركز ثقافي في الوطن العربي! ** **