في ليالي الابتهاج القمري في منتصف الشهر، وفي ليالي انسجام الجمال الهائل بين ضوئه وآثار المطر، والناس يسهرون متطلعين إليه، ينعمون بنشوة الجمال والإحساس بالنسمات الباردة، كان أشعثُ في جهة من البلاد يبحث عن إشارة شبكة المحمول لتصله بمن يحب على مرأى من القمر المتوحش بضوئه، حيث الجبال الصلبة والأرض الجرداء يتكئ على فوهة مدفعية، وينصت لأصوات الوحشة، ويكتب عبر رسالة «أنا بخير...»، وتنقطع الإشارة ويمر الوقت وئيدًا جدًّا حتى تظهر مرة أخرى، ويرجو الله أن تبقى الإشارة حتى يتم الإرسال. نحن نعيش واقعًا روتينيًّا، حتى أخطارنا روتينية، ومخاوفنا كذلك؛ لأن الواقع قد يكون جميلاً، وقد لا يكون، وتنقل لنا القصص الواقعية هذه الجوانب بكل ألوانها، وكل ما تتضمنه من مآسٍ قاد إليها الواقع، لكن هل تساءلتم ما هو (فوق الواقع)؟ قطعًا ليس الخيال؛ لأن الخيال لم يكن واقعًا حتى يكون فوق الواقع! (فوق الواقع) منبثق من الواقع الذي يتحقق في حياتنا ونشاهده ونلمسه، لكن لا نجرؤ على الإقدام عليه؛ فالمخاوف الواقعية والأخطار تأتي رغمًا عنا، وتحل علينا دون رغبتنا أو اختيارنا، أما فوق الواقع فأن يختار الإنسان الأخطار ويذهب إليها ويعيشها رغم وحشيتها، ورغم الأهوال التي تحفها، أن يذهب رجال القوات المسلحة إلى الحدود ويقطنوا هناك أشهرًا، لياليها مدلهمة، وأيامها حرب مستعرة، ويعانون غير خطورة الموت والإصابات الجسدية وفقدان الرفاق عيانًا ما يقع في نفوسهم من شوق وحنين لأهاليهم وأحبتهم، وللماضي الآمن في ذاكرتهم، هؤلاء لم يكونوا في بيوتهم ووقع عليهم القصف، بل ذهبوا رضا، وبقوا هناك رضا واختيارًا، وهم يعرفون أنهم قد لا يعودون! ما أغلى من النفس؟ ألا يستطيعون إن ضاقت نفوسهم أن ينسحبوا إلى عملٍ آخر؟! ما الذي يبقيهم هناك؟ وما القوة الجبارة التي تدفع ذلك الجندي الأشعث ليتم رسالته: (يعلم الله أننا ما ندمنا على اللحظة التي جئنا فيها هنا)؟ ما قالها أمام كاميرات وسائل الإعلام، ولا قالها أمام قائده، إنما كتبها لفؤاد حبيبته الخافق عليه خوفًا وتشفقًا، كتبها تحت ضوء القمر المتوحش في حالك الظلام، عندما اتكأ على المدفعية يعاني الوحشة، ونحن في ليلتنا القمرية نسهر مع أحبابنا محتفلين بالمطر! ويتم رسالته: (السماء تمطر رصاصًا... ربما أعود!). جنودَنا البواسل هناك على الحدود.. كلنا سنحمل قلوب الحبيبات والأطفال خوفًا عليكم، وشغفًا لعودتكم، وكلنا سندعو لكم بإلحاح الأمهات وشفقة الجدات وقنوت الآباء حتى تضع الحرب أوزارها، ويخيب ظن الأعداء، وسنكتب قصصكم ومشاهداتكم لمن يأتون بعدنا، وستخلدكم الكلمات؛ لأنكم «رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه...»، ولأننا لا نملك أن نفعل أكثر من ذلك ليست لدينا شجاعة اختيار واقع تحت القصف، نحن نحب الحياة، ونحب أن نعيشها بكل تفاصيلها، ونبني مستقبلها، وأنتم تحبون أن نعيشها بتلك التفاصيل لتستمر الحياة آمنة، على حساب أرواحكم وأجسادكم، وشوق أهاليكم إليكم وحنينكم لهم. هذا الوطن من أبنائه من يعمل فداء، ومن يعمل بناء.