استوقفني موقف الشيخ عبدالقاهر الجرجاني عندما وقف على جملة العالم النحوي سيبويه في حديثه عن سبب التقديم والتأخر في كلام العرب قائلا:" إنهم يقدمون في كلامهم ماهم ببيانه أعنى؛ وإن كان جميعًا يهمانهم» قرأها عبدالقاهر وأعجب بها، ولكنه لم يدعها تمر هكذا مرور الكرام، ولم يكتف بها؛ لتغنيه عن التعب والمشقة في البحث، ويقول مالي وللتعب فهذا عالم جليل قد أجاب عن السؤال؛ بل وجدناه يقف متأملا ويتساءل طويلا؛ والشواهد بين يديه تتكاثر من كلام العرب ولا ينطبق عليها كلها تعليل سيبويه، فعزم على أن يبحث عن الجواب بنفسه، فبدأ في النظر والتفتيش وإعمال الفكر في كلام العرب من الشواهد التي جمعها؛ للخروج بما يرضي شغفه العلمي، ونهمه الفكري؛ فقدح الفكرة بالفكرة، واستمد الشرارة من مقولة سيبويه، فخرج لنا بباب بلاغي كبير اسمه التقديم والتأخير يدرس في علم المعاني.. ذكر لنا فيه عددا من الأسباب البلاغية التي أدت إلى التقديم والتأخير في كلام العرب ومن ثم وصف كلامهم بالبلاغة والبيان، وبذلك يعلمنا الشيخ عبدالقاهر الجرجاني أن القراءة إذا لم تخرج منها فكرا جديدا وعملا مفيدا؛ فإنها لا تعد قراءة بمفهوم القراءة عند العلماء الأفذاذ.. وعليه لا بد من تدريب الذات على مفهوم القراءة الصحيحة والنافعة وهي التي تقدح فيها الأفكار بالأفكار.. لتنتج فكرة جديدة، وشعلة مضيئة في باب العلم والمعرفة، وليس مجرد قراءة لتكرار معلومات وحسب، والبحث العلمي المتميز هو الذي يأتي به صاحبه بفكرة جديدة، ورؤية لامعة تنم عن عقل واع، وإدراك ثاقب، وللأسف كثير من الأبحاث هي عمل مكرور، لا جديد فيها سوى أنها زادت من عدد الأبحاث في قنواتنا المكتبية دون فائدة تذكر؛ لذا على المهتمين بالبحث العلمي الالتفات إلى المنتج الفكري، ومحاولة إثارة كل ما هو جديد ومفيد، أما إن لم يجد فعليه أن يتوقف ولا يكلف نفسه فيما لا تستطيع. وبالعموم لن يتمكن الباحث من الإتيان بالجديد إلا بالقراءة الناقدة، والعين الثاقبة، والوعي المتلهف لاستخراج لآلئ المعرفة الحقة، وتطويق اللمحات البارقة؛ ليصنع منها كنوزا من سلاسل الأبحاث المتميزة التي ينتفع بها العلم والمجتمع. ** ** د. أمل العميري - الأستاذ المشارك وكيلة قسم الأدب بكلية اللغة العربية جامعة أم القرى