ليس هناك إبداع إنساني إلا وله هدف وإستراتيجية تبدأ بالبذرة والجذور، وليس لمسيرة أن تتحقق إلا ببداية سليمة تضمن الوصول إلى نتائج تحقق الأهداف، ومن تلك الإبداعات تأتي الفنون بمختلف فروعها ومنها الفنون التشكيلية التي نستحضر بعضا (مختصرا) من خطواتها لنصل إلى ما نعنيه بهذا المقال أو التقرير الذي نحاول به أن نذكر بجهود بذلت من فنانين ومسؤولين وقطاع خاص بأعمال حرفية فطرية مارسها أجيال الآباء والأجداد، نستدل منها مدى اهتمامهم بالجوانب الجمالية في حياتهم إضافة إلى مراحل التعامل مع هذا الفن وبساطة مستوى ما تخلل تلك البدايات وصولا إلى الاهتمام أو الدعم أو التنظيم الحديث، وقوفا مع الدور المهم في زرع البذرة بدءا بالتعليم مرورا بالاجتهادات الشخصية ثم الدعم الرسمي والمنهجية والعمل المؤسسي لنصل في النهاية إلى ما تحقق في هذا العهد الميمون من ارتقاء بالفنون التشكيلية السعودية ووضع المتميز منها في الموقع الذي يستحقه. البدايات في التعليم لا يمكن لأي متحدث عن الفن التشكيلي السعودي إلا ويذكر بذرته الأولى الرسمية المتمثلة بما كان يؤدى فطريا من قبل الحرفين في نقش الأبواب الملونة وتجميل المباني بالنقش على الجص أو ما يتعلق باللمسات على واجهات المباني حسب اختلاف المناطق، ووصولا إلى المرحلة الرسمية بإقرار مادة لتربية الفنية كمادة أساسية ضمن مواد التعليم العام في المملكة عام 1377ه. التي لها الفضل الأول في تشكيل هذا الفن والتعريف به على مستوى منهجي تلقى فيه الطلاب أبجديات الفن والترغيب فيه ومنح الموهوبين فيه الجوائز وما أقيم لهم من المعارض في مدارسهم، لتصبح المادة بهذا الاهتمام البوابة الأولى لبزوغ فجر هذا الفن وتقديره بإقامة تلك المعارض المدرسية له ساهمت في جذب أولياء الأمور وأحدثت نوعا من الثقافة البصرية للمجتمع في ذلك الوقت، دفعت بالمسؤولين للاستفادة من أولئك المبدعين في تلك الفترة بالتوظيف كمعلمين بعد تخصصهم في المادة في معاهد المعلمين ومعهد التربية الفنية الذي كان يمثل أكاديمية للفنون الجميلة، مرورا بفرص التوظيف بمجال الديكور في التلفزيون والمسرح الذي استقطب كثير من أولئك المتميزين وصولا إلى مرحلة ابتعاثهم ليستمر الاهتمام بفتح أقسام التربية الفنية في بعض جامعات المملكة دون إغفال مرحلة هامة أيضا تمثلت في إقامة الفنانين للمعارض التشكيلية التي اكتسبوها من الفنانين المعلمين العرب في تلك المعاهد الذين أقاموا لهم معارض شخصية كانت سببا في فتح آفاق هذا التوجه عند الشباب التشكيليين السعوديين في ذلك الوقت.. الاهتمام الرسمي المؤسس للفن التشكيلي مرَّ الفن التشكيلي من الحرفية الفطرية إلى التعليم وصولا إلى مرحلة التأسيس الحقيقي له كفعل منفرد لينظم إلى رفاقه الفنون التشكيلية العالمية بعد أن تولت المديرية العامة لرعاية الشباب التابعة لوزارة العمل إدراج الأنشطة الثقافية ضمن لائحة الأندية الرياضية ومنها الفنون التشكيلية وتخصيص مدربين لها في الأندية أقيمت لها المسابقات والمعارض، وذلك فترة إدارتها من صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل ما بين 1387-1391ه. إلى أن انتقلت مهام الرياضة والشباب إلى الرئاسة العامة لرعاية الشباب برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن فهد بن عبد العزيز الذي له الفضل الأول في وصول الفن التشكيلي السعودي إلى أعين العالم بعد أن وضع له منصته المحلية بدعم المعارض الجماعية والفردية وإقامة المسابقات والمشاركات الدولية للفنانين السعوديين، ليتواصل هذا الدعم إلى أن انتقل الشأن الثقافي من الرئاسة العامة لرعاية الشباب إلى وزارة الإعلام عام 1424ه وأطلق عليها وزارة الثقافة والإعلام وإلى الآن، حيث أكملت الوزارة ما أسسته الرئاسة وصولا إلى ما يستشرف من تفاؤل لهذا الفن في هيئة الثقافة التي أعلنت عام 1427ه. تجارب رائدة وأجيال جديدة هذه الاهتمام الرسمي تمخض عنه الكثير من خطوات تحقيق الأهداف لهذا الفن وللثقافة عامة فبعد التجربة في الأندية وصولاً إلى مرحلة الاعتراف الرسمي بهذا الفن ووضعه ضمن ثقافة الوطن وتقديم الرعاية له محليا ودوليا برزت فيه تجارب تستحق الإعجاب والفخر من نخبة من التشكيليين على مستوى المملكة في السبعينيات والثمانينيات الميلادية يعدون روادا للبدايات غالبيتهم من خريجي معهد التربية الفنية الذي افتتح عام 1965م وأغلق عام 1990م دام قرابة خمسة وعشرين عاما تلقى الدارسين فيه أسس العمل الفني الأكاديمي على يد معلمين عرب من مشاهير الفنانين في بلدانهم، ليتواصل الضخ من المواهب الجديدة المؤهلة من أقسام التربية الفنية ببعض جامعاتنا ومن الشباب الممتلك للموهبة الجادة الذين يمكن استخلاصهم من الكم الكبير من الإقبال على هذا الفن في الفترة الأخيرة مع من تم ابتعاثه لدراسة الديكور أو التربية الفنية أو الفنون الجميلة أضفوا كثيراً من التجارب على الساحة التشكيلية المحلية. المؤسسات الحديثة ومسار الفن المعاصر تلك الخطوات التي مررنا عليها باختصار كانت بمثابة المقدمة أو التمهيد للحديث عن واقع الفن التشكيلي في حاله وحلته الجديدة في زمن المنافسة العالمية التي تندرج ضمن رؤية الوطن (2030) بمباركة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وقيادة ولي العهد محمد بن سلمان التي تعيشها كل المؤسسات والأفراد، حيث أخذت الفنون التشكيلية تنتقل نحو خطوة أكثر تلاحماً وتواصلاً مع العالم المتجدد والمتطور في هذا المجال بروح ونظرة شبابية تجمع الحداثة بالهوية الوطنية تنافس الآخرين دون تخل عن قيم الوطن ومبادئه فكسبوا الإعجاب والتفتت لهم دور العرض والمتاحف العالمية وأصبحوا جزءا من أنشطتها، هذا الحراك للفن التشكيلي السعودي لم يكن لينجح لو لم يكن خلفه مؤسسات تعمل بمنهجية واستراتيجية بعيدة النهايات نحو آفاق جديدة محلية وعالمية يسرنا فيما يلي أن نستعرض أبرز تلك المؤسسات. مسك آرت والطريق إلى العالمية تعد مسك آرت في الرياض أحد فروع مؤسسة الأمير محمد بن سلمان الخيرية طريق جديد وآمن للفنون التشكيلية على مستوى المملكة تحت إشراف ومتابعة من معالي أمين المؤسسة الأستاذ بدر العساكر، وكما جاء في بيانها إنها تمثل تظاهرة فنية غير ربحية تجمع عدد من الفنون البصرية المنتقاة تحت سقف واحد لتفسح المجال للفنانين لنشر إبداعاتهم والتعبير عن أنفسهم في أجواء إبداعية ملهمة بحضور متذوقي الفن والمهتمين والأفراد من مختلف شرائح المجتمع، تهدف هذه الفعالية إلى دعم وتعزيز الحركة الفنية المحلية في المملكة وتطويرها ونقلها للعالم. يقدم مسك آرت برامج تفاعلية مختلفة تتيح للفنانين الشباب فرصة تبادل الأفكار ومشاركة الفنانين من مختلف دول العالم اهتماماتهم وإبداعاتهم و ينطلق منه العديد من الفعاليات والمعارض المحلية والدولية، وتتضمن أنشطت مسك آرت الأعمال المفاهمية، التركيبية والمجسمات الفنية جرافيتي (الكتابة/الرسم على الجدران) Tape Art (فنون الشرائط اللاصقة) المجسمات الضوئية الرسم التشكيلي فن النحت الفيديو آرت فنون الديجيتال رسوم متحركة رسم إلكتروني، ويُعد معرض مسك آرت (طريق البخور) في اليونسكو أول معارضه الدولية المتنقلة من الفعاليات التي أحدثت ردود فعل إيجابية وكسب الإعجاب محليا وعالميا ويعد له خطوات جديدة سيعلن عنها في وقتها، إضافة إلى ما يقدم للفن التشكيلي في مهرجانات مسك آرت (حكايا مسك) مستذكرين الفعالية التشكيلية المتميزة التي أقيمت في الرياض في شهر أبريل 2017م جمعت نخبة من التشكيليين من مختلف الأجيال. المجلس السعودي للفنون كما يأتي المجلس سعودي للفنون في جدة، بمجلسه المنتقى من مختصين في الفنون والتسويق تترأسه الأميرة جواهر بنت ماجد بن عبدالعزيز، حيث أقام العديد من الفعاليات الفنية الحديثة التقنيات والفكر من بينها فعاليات فن جدة 21.39 الذي كان وما زال أحد التظاهرات التشكيلية المؤثرة والجاذبة محليا ودوليا نتيجة التنظيم المنافس لمثيلاته الخليجية والعربية والعالمية تحولت به مدينة جدة إلى كرنفال تشكيلي سنوي أحدث حراكا وحوارات أضفت الكثير من الوجبات الإبداعية سيكون للجميع موعدا مع دورته الجديدة في الأيام المقبلة. مركز الملك عبدالعزيز الثقافي (إثراء) أما الضلع الثالث في المؤسسات التي أعد المسؤولين فيها استراتيجيات وفعاليات تجمع بين المحلية يأتي المركز الذي أنشأته أرامكو السعودية باسم مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء)، مساهم بشكل فاعل في تحقيق رؤية المملكة بالتحول إلى اقتصاد المعرفة كما جاء في بيانه التعريفي، أقام وأشرف على العديد من الفعاليات الفنية والثقافية على مستوى عالمي خدمة للفن المحلي منها معرض الفن السعودي المعاصر في مدينة ديربورن بالولايات المتحدةالأمريكية الذي أقيم في يوليو 2017م جمع فيه أكثر من 40 فنانا سعوديا تحت سقف واحد وقدمهم إلى العالم بحيث يرسم صورة شمولية عن المشهد الفني السعودي، مذكرين بالمعرض الذي أقامه مركز إثراء في الديوان الملكي وقت زيارة الرئيس الأمريكي ترامب للمملكة. استشراف وتفاؤل يحقق الأهداف مررنا باختصار على مسيرة الفن التشكيلي السعودي وكلنا أمل واستشراف لمستقبل مشرق لتحقيقي الأهداف التي ترتقي بهذا الفن وبالأعمال التي تستحق إبرازها عالميا بعيدا عن الاجتهادات والمشاركات غير المجدية وغير المنصفة وحينما أشرنا واستشهدنا بالمؤسسات الثلاث (مسك آرت، والمجلس السعودي للفنون، وإثراء مركز الملك عبدالعزيز التابع لأرامكو)، كان انتقاء نأمل أن يتبعه ما يماثله من مؤسسات جديدة تتفق معها في الاستراتيجية والمستوى.