لو أننا تتبعنا الكثير من أعمال الحج من طواف وسعي ورمي وإحرام لوجدناها كلها إنما تنبعث من مبدأ الإيمان بالله والتصديق برسوله والرضا بما يحكمان به، وذلك لأنها أمور تعبدية قد لا تظهر حكمتها لكثير من الناس، فطاعة الله فيها هي بذاتها آية على صدق الإيمان بالله إلهاً واحداً، ومشرّعاً حكيماً، وصدق الإيمان برسوله نبياً هادياً، ومبلغاً يتبع ما يوحى إليه. ففي الحج توحيد الله تعالى والإيمان به إيماناً صادقاً، والتصديق بما جاء به رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فإن أبرز مشاعر الحج هي التهليل والتكبير والتلبية، ولسان الحاج لا يفتر عن ذلك أينما حل أو رحل، وهو حين يؤدي مناسك حجه وعمرته يتتبع ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما فعله، حتى إن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما رأى الرَّمَل -وهو إسراع الناس بالمشي عند الطواف- أراد أن يمنع الناس من ذلك بحجة أن الرمَل إنما كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- - مظهراً مقصوداً ليرى منه المشركون أن المؤمنين أقوياء أصحاء، لأنهم كانوا يقولون: لقد طحنتهم حمى يثرب، فظنوا بهم الضعف، فأراد المسلمون أن يظهروا بمظهر القوة في طوافهم، فكان ذلك الرمل، أي الإسراع، هكذا رأى عمر أولاً ثم عاد إلى نفسه، فقال: لا ينبغي أن نبطل شيئاً فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلعل الرمل مشروع تعبداً، أو لحكمة غير هذه لا نعلمها، وبذلك بقي الرمل من سنن الطواف، وهذا اقتداء واتباع للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكثير من أفعال الحج كذلك، وقد قال عمر في تقبيل الحجر الأسود: والله إني لأعلم إنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبَّلتك. وفي الحج بعد ذلك بذل المال والجود به، وهو المعنى الذي تصدر عنه الزكاة، بل إن بذل المال في سبيل الحج يقترن بأن الإنسان يترك عمله ومصادر رزقه، ويتخلى عن كل مورد من موارده - ولو إلى حين - كي يؤدي فريضة الحج، فالتضحية في الحج تضحية مزدوجة، لأنها تضحية في المورد، وتضحية في الصرف، أما الزكاة فإنها تضحية في الصرف فقط. وفي الحج أيضاً رقابة للنفس كرقابة الصائم: إن من يفرض الحج على نفسه يجب أن يلتزم بأدب الحج التزاماً قوياً، فهو في حالة إحرام مادي حيناً، ومعنوي دائماً، فإذا كان الصائم يمتنع بعض يوم عن رغباته وشهواته، فإن الحاج يكف عن ذلك طول نهاره وطول ليله، ويمتد به هذا الحرمان أياماً، وربما امتدَّ أسابيع.