لقد غبتِ عدة أيام ولم أجدني أهتم، ثم مضى يوم ويومان وأسبوع وأسبوعان ووجدتني أنتظرك، ومن المؤسف أن علي أن أذهب الآن دون أن أراك، لكن الذي يعزيني هو أنني أستطيع الكتابة لك. عندما قدمت هنا قبل أسابيع لم يكن لدي خطة لأي شيء، وكان من السهل أن أجبن مرةً أخرى، وأستعيد حياتي المملة تلك التي كنت قد تركتها.. لكن بفضلك وبفضل تلك العناوين التي جعلتني أتعرى لنفسي وأراها، وأتخلص من الماضي كله ومن الضباب والخوف والتيه. إنني أخشى أن أكون قد أخطأت في حقك. لقد أعطيتني الصبا المليء بالحياة والرغبة في الحياة.. وماذا فعلت أنا بالمقابل؟ كتبتُ لك عن الكآبة والخريف والجُبن واليأس. وضع سهيل هذه الرسالة مع مجموعة من الكتب، وطلب من المرأة التي كان قد استأجر غرفة عندها طوال إقامته أن تعطيها الصبية عندما تعود. عندما سمعت المرأة كلامه أجهشت بالبكاء، وقالت: هل رأيت جنازة بالقرية قبل أيام؟ لقد كانت جنازتها هي. لقد ماتت يا أستاذ، وكنت أريد أن أخبرك البارحة ولكنني رأيتك حزيناً؛ فلم أُرِد أن أحزنك أكثر.. وظننتُ أنك ستغادر دون أن تسأل عنها. قال وهو يسند نفسه على كرسي خشية أن ينهار: كيف ماتت؟ إنها شابة، لم تبلغ العشرين.. حتى أجابت المرأة: لقد كانت مصابة بسرطان الدم، ولم يعرف أحد. لم تقُل لأحد حتى عائلتها، وكانت تتعالج سراً، ولمّا كانت تدرس في بيروت وتعيش وحدها كان من السهل إخفاء مرضها. وقبل أيام كانت في طريقها إلى هنا وتعرضت لحادث سيارة، ولم يكن الحادث خطيراً، لكنها نزفت الكثير من الدم، ولم يستطع الأطباء إنقاذها.. في الطائرة وهو عائد إلى الرياض عرف العنوان الذي سيختاره لكتابه الذي أنهى مسودته الأولى وهو في بيروت.. إنها الهزيمة، هكذا كان يردد بينه وبين نفسه.. إنها الهزيمة أمام الحياة, أمام الصبا، أمام الإيمان، أمام الفرح، أمام الفرص الجديدة. إنها الهزيمة، ويجب على المرء أن يقبل بها. دفع سهيل بكتابه إلى الناشر، وبعد بضعة أشهر في ليلة باردة من ليالي ذلك الشتاء أُخذت حياته إثر نوبة قلبية، ولم تكن الخادمة في المنزل لتسعفه، وظلّ طوال الليل يحتضر.