كان السؤال المزعج والمقلق لنا دائماً كسعوديين؛ ماذا بعد النفط؟ فلا رؤية لدينا للمستقبل نستبشر منها خيراً ولا خطة واضحة تسير بنا على هدى إلى بر أمان، فقط أمنيات أو تكهنات تزيد من حيرتنا ونركن لها عندما يتمكن منا الإحباط. ومع إعلان «رؤية السعودية 2030»، في تاريخ 25 إبريل 2016م، انقشع الظلام وتبدد ذلك القلق وطرد الوهن، فقد تلقى المجتمع هذه الرؤية بكل حماس فحفظنا محاورها ودرسنا أهدافها وفهمنا مصطلحاتها، كيف لا وقد رسمت لنا خارطة الطريق نحو وطن طموح مجتمعه حيوي واقتصاده مزدهر. إن هذه الرؤية التي رسمها وأبدعها مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية تعتبر من أهم وأبرز الإنجازات على المستوى الوطني خلال العقود الماضية، فقد بنيت على مكامن القوة لدينا، الوطن الذي تشرف بوجود أطهر البقاع على وجه الأرض الحرمين الشريفين، والقوة الاستثمارية الكبيرة التي تمتاز بها مملكتنا الغالية، وكذلك الموقع الجغرافي الإستراتيجي للمملكة بين القارات الثلاث وعلى أهم المعابر المائية التي تمر من خلالها معظم التجارة العالمية. كما أن الرؤية لم تغفل استثمار وفرة بدائل الطاقة المتجددة والثروة المعدنية التي لم تستثمر من قبل وسيكون لها دور أساسي ومهم في رفد اقتصادنا ودعم خطط التنمية، مثل اليورانيوم والذهب والفسفور. كما أن أهم ثروة وطنية ركزت عليها الرؤية هي وبكل فخر الطاقة الشبابية التي تمتلكها السعودية وتسعى لاستثمارها وتنميتها لتقارع بها الأمم وتنقلها إلى مصاف الدول المتقدمة، ولعل لنا في تجربة سنغافورة خير دليل. اعتمدت الرؤية على ثلاث محاور رئيسة، هي: مجتمع حيوي: قيمة راسخة، بيئته عامرة، بنيانه متين. اقتصاد مزدهر: فرصه مثمرة، استثماره فاعل، تنافسيته جاذبة، موقعه مستغل. وطن طموح: حوكمته فاعلة، مواطنه مسؤول. حيث تعتبر هذه المحاور هي العناصر الأساسية في نهضة الأمم ورقيها وتطورها. إلا أن أبرز ما لفت الانتباه هو ما تطرقت له الرؤية من خلال جوابها على السؤال الآتي: كيف نحقق رؤيتنا؟ فمعرفة «ماذا»نريد و»لماذا» لا يعطينا حلاً بدون «كيف» نحقق ذلك، وهو ما بدأ بتنفيذه فعلاً مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية من خلال إطلاق عدة برامج، منها: برنامج إعادة هيكلة الحكومة، والذي كان من أهم وأبرز مخرجاته، إنشاء مجلس الشؤون السياسية والأمنية ومجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية. برنامج الرؤى والتوجهات. برنامج إدارة المشروعات وذلك لأهمية ترسيخ هذا المفهوم العالمي في إدارة مشاريع الجهات الحكومية لتعظيم الفائدة القصوى منها. برنامج تحقيق التوازن المالي، الذي حقق خلال عام زيادة في الإيرادات غير النفطية تصل إلى 30 %. برنامج مراجعة الأنظمة، والذي سرّع بتطبيق عدة أنظمة كانت رهن الدراسة لأعوام مثل نظام رسوم الأراضي البيضاء، ونظام المؤسسات والجمعيات الأهلية. برنامج قياس الأداء، والذي نتج عنه تأسيس المركز الوطني لقياس أداء الأجهزة العامة وبناء لوحة مؤشرات قياس الأداء وبدأ بنشر مفاهيم مؤشرات قياس الأداء على الأجهزة الحكومية لتعزيز مبدأ الشفافية. برنامج التحول الإستراتيجي لشركة أرامكو السعودية. برنامج إعادة هيكلة صندوق الاستثمارات العامّة ليكون أكبر صندوق سيادي في العالم. برنامج رأس المال البشري. برنامج التحول الوطني. برنامج تعزيز حوكمة العمل الحكومي. برنامج التوسع في التخصيص. برنامج الشراكات الإستراتيجية. كما قام مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية بتأسيس اللجنة الإستراتيجية ومكتب إدارة الإستراتيجية ومكتب إدارة المشاريع، ومركز الإنجاز والتدخل السريع الذي أدار برنامج التحول الوطني بكل نجاح، واللجنة المالية والإعلامية وغيرها كثير في قادم الأيام من الأدوات والممكنات التي تضمن تحقيق هذه الرؤية وفق أطر عملية واضحة. ولكون جميع ما تستند له الرؤية في تحقيق أهدافها سيتم من خلال برامج ومشاريع، كان لزاماً الحديث هنا عن دور مكتب إدارة المشاريع وأهميته خلال المرحلة القادمة والذي يعتبر المحرك الرئيسي والقلب النابض للرؤية 2030 : ما هو مكتب إدارة المشاريع: هو مكون أساسي من مكونات أي منظمة أو جهة، يرتبط مباشرة بأعلى سلطة في المنظمة ويعمل على تنظيم عملية إدارة المشاريع والإشراف عليها وضمان تحقيقها لأهدافها، وتقديم الدعم اللازم لها من خلال توفير منهجيات العمل وفق أفضل الممارسات العالمية، وتزويدها بالموارد البشرية المؤهلة، وتوفير التدريب المناسب، ونشر المعرفة. وهناك عدة نماذج دولية لمكتب إدارة المشاريع تعمل عليها أغلب المنظمات المحترفة، حيث يعتمد اختيار النموذج المناسب بناءً على مستوى النضج في إدارة المشاريع لدى المنظمة، وحجم المنظمة وعمر نشأتها، وكذلك مقدار القوة والصلاحية التي تعتزم هذه المنظمة منحها للمكتب، لعل من أبرز هذه النماذج: النموذج الداعم (Supportive): ويعنى بتقديم الدعم اللازم للمشاريع من نماذج ومنهجيات وأدوات، دون التدخل في عملية، وهنا لا يتحمّل مكتب إدارة المشاريع مسؤولية تنفيذ المشاريع ونجاحها وتحقيق أهدافها، وعادة ما يطبّق هذا النموذج في المنظمات التي يكون مستوى النضج في إدارة المشاريع لديها عالياً وكبيراً. النموذج الموجه (Directive): في هذا النموذج يكون لمكتب إدارة المشاريع دور أكبر في تنفيذ المشاريع من حيث توفير مدراء المشاريع وتعيينهم، ووضع خطط التنفيذ فيكون هو المسؤول عن نجاح المشروع وتحقيق أهدافه، وعادة ما يطبق هذا النموذج في المنظمات التي يكون مستوى النضج في إدارة المشاريع لديها ضعيفاً أو لا تزال ناشئة. النموذج المسيطر (Controlling): وهو ما يعتبر النموذج الوسط ما بين النموذجين السابقين، فيعمل كداعم لجميع المشاريع لحين وجود خلل أو تعثر في تنفيذ أحدها، فيقوم بالتدخل لمعالجة المشكلة إعادته لمساره الصحيح المحقق للأهداف. وتشترك جميع هذه النماذج في توفير منهجيات العمل وآلياته، ووضع المعايير وتطبيقها، وبناء أنظمة إلكترونية لإدارة المشاريع، وكذلك التدريب، وإدارة عملية التواصل الفعّال مع أصحاب المصلحة. وتبرز أهمية مكتب إدارة المشاريع للمنظمة بأن المنظمات أو الجهات التي أسست مكاتب لإدارة المشاريع لمست الفرق الكبير في نسب نجاح تنفيذ المشاريع قبل تأسيس وتفعيل المكتب وبعده، ففي بعض الدراسات أثبتت أن مكتب إدارة المشاريع قلل وبنسبة 27 % من فشل تنفيذ المشاريع كما زاد نسبة مواءمة البرامج والمشاريع مع الأهداف الإستراتيجية للمنظمة بواقع 45 %، ولعل المرحلة الحالية التي تتزامن مع إطلاق برامج ومشاريع رؤية المملكة 2030، تحتم علينا العمل وبجدية على تأسيس مكاتب إدارة المشاريع في كل جهة ومنظمة حكومية، مع توفير سبل النجاح لها من خلال إعطائها الصلاحيات والميزانيات المطلوبة وتوفير واستقطاب أفضل الكوادر البشرية للعمل فيها مع تأهيل الكوادر المتميزة من منسوبي القطاعات الحكومية. ومن أهم عوامل نجاح مكتب إدارة المشاريع: دعم القيادة العليا في المنظومة أو الجهة. وكذلك امتلاك الصلاحيات. وبالتأكيد وضوح وسهولة منهجيات العمل والإجراءات. وأخيراً كفاءة وخبرة الكوادر البشرية، ولعلي هنا أود أن أشير إلى أن هذا العامل يعتبر من أهم عوامل نجاح مكتب إدارة المشاريع، لذا يجب التركيز على استقطاب الأفضل والأميز، وكذلك من يضمن ديمومة العمل ونقل الخبرة وتوطينها، وهنا أود أن أدعم وبقوة إعطاء الفرصة للسعوديين والسعوديات الذين تميزوا خلال العقد الماضي بإجادة هذا الفن وأبدعوا فيه، كما أن خريجي برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث ينتظرون الفرصة لإثبات وجودهم وخدمة وطنهم، كما سيكون لهذا التوجه أثر كبير في تنمية رأس المال البشري. وتبدو أبرز التحديات التي يواجهها مكتب إدارة المشاريع في أغلب المنظمات والجهات الحكومية وبخاصة المكاتب ذات التأسيس الجديد: مقاومة التغيير لهذا المفهوم الجديد الذي يرى فيه البعض اعتداء على صلاحياته أو تدخلاً في عمله أو متابعة دقيقة لمستوى الإنجاز مما قد يكون مزعجاً للبعض ممن اعتاد على السعة في الإنجاز وعدم التقيد الدقيق بموعد مجدول لتسليم المهام مهما كان صغرها!! وكذلك عدم نشر المعرفة والتثقيف بدور مكتب إدارة المشاريع ورفع مستوى النضج في المنظمة والدعم الكافي من قبل رأس الهرم في المنظمة أو المؤسسة فيجد نفسه المكتب وجهاً لوجه مع المدراء التنفيذيين وبدون ظهر يحميه أو يصّعد له التقارير التي تبين ضعف تلك الإدارة في مستوى الإنجاز وبذلك تقل أهمية المكتب في المنظمة، ومن التحديات التي يواجهها المكتب الصورة النمطية من كون مكتب إدارة المشاريع عبئاً مالياً إضافياً على المنظمة على الرغم من أنه هو من يسّرع الإنجاز فيخفّض التكاليف ويحلّل المهام بشكل دقيق مما يكشف البطالة المقنّعة في الإدارات ومستوى الإنتاجية لكل قطاع. ختاماً، أتقدم بخالص الشكر والتقدير لمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية لإيمانه بمفهوم إدارة المشاريع وتأسيسه مكتب إدارة المشاريع على مستوى المجلس، كما أثمن الدور الذي يقوم به حالياً هذا المكتب بقيادة أبرز الكفاءات، وأدعو لهم بالتوفيق والسداد.