معالم درست وصور غابت من سٍفر الذكريات... لوحات جميلة وزاهية بتكويناتها وطبيعتها التي وهبها الله سبحانه لأمكنة لها في قلب كل أبناء القريات ذكرى... ارتبطوا بها ونسجوا معها خيام أنسهم ورواق تعاليلهم ومسامراتهم ... غابت عن المشهد... وتوزع الأنس والمسامرات لم تعد والجمع تفرق ومضت الأيام... تغيرت الملامح ... عقوم اقتطعت تلك الربوع وحال بينها وبين الناظر لها تلك العقوم وانكفأ الناس إلى مجالسهم واستراحاتهم.... ما بقي إلا التذكر واستحضار الصور والذكريات تلك هي متنزهات أهالي القريات التي قضت على بكريتها المعاول والشياول ونخرت في مجاري الأودية واشبعتها حفراً واقتطعت كل غصن أخضر وجردت طبيعتها من كل غطاء نباتي... عند نهاية مصب وادي حصيدة الغربية وفي حضن فيضة (الرشراشيه) ومن إطلالة (صِيحانِها) الضاحكة بِشرا بجريان الوادي. وأنت تطل عليه من علو لوجه الجنوب.. وقفت وقد لاح لي بارق على أطراف الصوان... دغدغ المشاعر ورقّت له العاطفة... انتظرت ابتسامة لم تعد وحضور مضى لوادي حصيده وهو البهي الشهي الفاتن ويكون أكثر من هذا حين تمطره سحابة فأروت وفاضت وجرى الوادي متلوياً يسقي أشجار الغُرب ويملأ الثمايل ويطرب لخريره كل طائر وتتراقص له الأغصان المخضرة. تطربك صوت موسيقى مصافحة الماء لحجارة الصوان المغتسلة بالمطر. تطالع الوادي فيذكرك بتوأمه (باير) رئتا القريات ومتنفسها... تتراءى لك الذكريات.. تثير في مرايا النفس رهبة لا تفعلها سوى الأمكنة التي تمتلك ذلك السحر الخفي والإيقاظ الذي يتلبسك ..تحضر الصور... وتستحضر كل الذكريات التي خُلدت... تستعيد تلك اللوحات البهية لهذا المكان في زمنه.. تطل عليه بعين الذي كان يريد لهذا الموقع حضوراً يشكل امتداداً لأمسه وواقعاً يجسد العلاقة بين المكان وأهله... لكنه حيل بين ما نريد ونرغب. وقفت هنا حيث أطالع في أفق المكان... تتراءى لي تلك اللوحات الجميلة التي وهبها الله لمتنفس الأهل قبل سنين.... قد سطر وادي حصيده وتوأمة باير اسفاراً من الذكريات لأهلي هنا حيث يطيب المقيال بين مصبات المياه من علو الوادي وعند الثمائل التي أروت الناس مياها نقية صافية. وعند منعطفات الوادي الذي تجرد من غطائه الشجري وجرّفت تربته وتحول إلى مصائد للمتنزهين عند كل موسم مطري. تطالع صيحان الفيضة ببياضها وتخلل مجاري المطر من سفحها ومنظر أشجار الرتم الظليلة... أنها تقرع المخيلة وتفرد صفحاتها وصورتها الجميلة.. الواديان وفضائهما الفسيح يشكلان في احتضانهما للقريات من جهتيها.. صورة العطف ولوحة التحنان .. لهما في القلب السر الدفين وفي المهجة عشق لم ينل منه التجريف والتصحير... بل بقيا يشكلان امتداداً لنمط الحياة التي تذوقنا طعمها باكنافهما.. حين تدلف للواديين تطالعك الطبيعة الجاذبة وأغراء الشمس حين تدنو من المغيب ورجع الصدى في منحنياتهما ومساقط المياه فيهما وخرير الماء بعد هطل سحابة. حصيده وباير حملتهما الذكريات واستحضرتهما الصورة وشكلا قلادة في جيد القريات. لسنين مضت خطوت على حصاهما وتذكرت... تهت في ذكرياتي ايقظتني يمامتان على غصن شجرة غرب أصبحت اليوم (غريبة) في موطنها.. هدلتا بصوتهما الشجي فحركتا مشاعر وأحاسيس قد أصيبت... لكن العشق الأزلي يستيقظ كلما ناح الورق.