ما زال التوجيه الملكي الكريم الذي خصَّ به خادم الحرمين الشريفين وزير التجارة والصناعة ومحافظ الهيئة العامة للاستثمار لدراسة تعديل اللوائح والأنظمة لتتيح للمستثمر الأجنبي البيع المباشر بالجملة والتجزئة لمنتجاته، يثير كثيراً من التحليل والاستقراء حول أثره على سوق التجزئة بالمملكة على المدى القريب والبعيد، فمعظم الاستقراءات تتحدث عن الأثر الإيجابي على السوق، وكون هذا الإجراء سيعزز من التنافسية النوعية بما يعود بالمنفعة على المستهلك والتاجر، ويمنح المتسوّقين خيارات أفضل ويساهم في طرد المنتجات الرديئة من المنافسة. وقلة من المحللين يشيرون إلى احتمالية أن يؤدي ذلك لمزيد من الضغوط على المؤسسات الصغيرة في سوق التجزئة وربما يقود لخروج بعضها منه. أنا أميل للرأي الأول، وأعتقد أن هذا الإجراء سيغيّر من البنائية التنافسية للسوق، حيث هي الآن تعتمد على المنافسة السعرية على حساب نوعية المنتجات والخدمات، مما جعل العائد النفعي لمعظم السلع أقل مما يجب، وكون المنافسة السعرية في السوق وعلى مدى العقود الماضية قادت لخفض الهامش الربحي، مما جعل معظم مؤسسات التجزئة تفتقر للكفاءات الإدارية المتميزة نتيجة ضعف القدرة على دفع رواتب مجزية وإهمال التطوير والتدريب، وباتت معظم الوظائف التي يقدمها قطاع التجزئة من حظ الوافدين قليلي التأهيل والتعليم، فانعكس ذلك على طبيعة خدمات العرض والعناية بالعميل، وباتت سوق التجزئة من حيث التنظيم والأساليب في المملكة لا تختلف عنه في بعض البلدان التي نستقدم منها تلك العمالة غير المدربة والتي استولت على معظم وظائف هذا السوق. منح المستثمر الأجنبي من الشركات المتميزة في منتجاتها وخدماتها الفرصة في دخول سوق التجزئة السعودي سيقود بلا شك إلى تحفيز المشتغلين في السوق الآن للنظر في منتجاتهم وخدماتهم والعمل على الاستعداد لمنافسة المتميز الجديد في السوق، وهذا بلا شك سيقود لنهضة في تحسين أعمالها وفتح المجال لتوظيف الكفاءات القادرة على التغيير للأفضل، كما سيحفز تلك المؤسسات والشركات لتطوير أنظمتها وأساليبها وتحسين علاقاتها بالعملاء، وهذا بحد ذاته سيحرّك نشاطاً جديداً يتمثَّل في خدمات إضافية منوعة تقدمها مؤسسات صغيرة ومتوسطة كالتسويق والتدريب والعناية بالعملاء وخدمات النقل والتوصيل والتغليف، كما أن هذا الإجراء وكونه يحفز المستثمر الأجنبي على الاستثمار في الإنتاج المحلي وطرق مجال بيع التجزئة وخدمات ما بعد البيع، سيُؤسس بيئة تحتية لتطوير ما يُسمى بسلسلة الإمداد (Supply Chain)، وهي عمليات مترابطة تتسم بالتنظيم والدقة لضمان اقتصادية المنتجات، حيث تتكامل في صورة منظومة إمداد للمواد الخام والمصنّعة لتكوين منتجات نهائية تصل للمستهلك على أفضل حال وبأقل التكاليف الممكنة، وهذا التطوير في عملية الإمداد سيوفر وظائف فنية وإدارية عالية التأهيل ومجزية المردود.. وتمثّل فرصاً جيدة للمواطن المؤهل، وتساهم في خفض الحاجة للعمالة الرخيصة غير المدربة. يُمثِّل سوق التجزئة في المملكة أكبر حصة في الناتج الإجمالي المحلي غير البترولي، ويُعتبر أكبر سوق للعمل يوفر آلاف الوظائف الجديدة سنوياً، ويتميز بكونه أقل النشاطات تطوراً في التنظيم والأساليب والخدمات, وتغيير البنائية التنافسية في السوق من المنافسة السعرية للمنافسة النوعية ربما يقود على المدى القريب لاضطراب في الأسعار، ولكنه على المدى البعيد سيحسّن من المعروض للمستهلك من الخدمات والسلع، بحيث تصبح المنفعة الحدية لذلك أعلى بكثير مما يحصل عليه المستهلك الآن، وتقود لتطوير في سوق العمل بحيث ينشط الطلب على الوظائف النوعية والكفاءات المتميزة، مما يُعزز سوق التدريب والتعليم المهني ويُقلل الاعتماد على الأيدي العاملة غير المدربة، وهذا بلا شك سيصب في حوض السعودة مزيداً من الفرص، لذا نأمل من كل من معالي وزير التجارة والصناعة ومعالي محافظ الهيئة العامة للاستثمار، الإسراع في تطبيق التوجيهات السامية، ونتمنى لهما التوفيق والسداد.