شأن كثير من المسافرين المسكونين بالشجن، احتاج إلى جرعات إضافية من القهوة، ولاسيما قبيل نهاية الرحلة، حتى أقاوم الضغط الزائد داخل الطائرة على جمجمتي، وأيضاً حتى أكون أكثر تركيزاً في وجهتي التالية، إثر مغادرتي المطار. ولعلمي أن طاقم الضيافة قد أنهك تماماً، بعد تقديم الطعام والشراب لنحو 517 راكباً أحياناً في حال ما إذا كانت الطائرة من طراز إيرباص إيه 380، ولاسيما أن غالبية الطاقم من النساء المؤهلات فسيولوجياً لأمراض القدمين المبكرة، أجد أنه يكون أخلاقياً بدلاً من ضغط زر استدعاء المضيفة، أن أنتقل إلى ذيل الطائرة بنفسي لطلب مزيد من القهوة من المضيفات بعد تقديم اعتذاري عن قطع أحاديث ما قبل نهاية الرحلة عليهن. «كم تدفع؟».. كانت مزحة من الشابة المبتسمة التي تحدثت بود صادق هذه المرة، متخلية عن ابتسامتها الرسمية المصطنعة، حين اطمأنت إلى أنها في أمان أمام راكب يعتذر لمقاطعة حديثها مع زميلاتها، ما يعني أنه لا ينظر إليها نظرة سيد دفع ثمن تذكرة مشمول بها خدمته على أفضل وجه، حتى إذا لزم الأمر تحمل سخافاته وفظاظته، أو نظرة شخص غريب الأطوار إلى امرأة «سهلة المنال». ودعتُ الفتيات وعدت إلى مقعدي بكوب القهوة، بعدما دعوت للشابة المبتسمة بأن «ينولها الله ما في بالها»، نزولاً على رغبتها، في مقابل كوب القهوة. حلقة ضعيفة «أنت هنا لخدمتي» عبارة تحاول المضيفة الجوية تجنبها بابتسامتها الدائمة واستجابتها لكثير من طلبات ركاب يفتقرون إلى كثير من قواعد الذوق واللياقة، على شاكلة تلك التي أوردتها مضيفة الطيران سيدني بيارل في كتاب من تأليفها حمل عنوان (مذكرات مضيفة غاضبة) Diary of a Pissed-Off Flight Attendant. وتعلق سيدني بضيق على الركاب ممن يتعاملون معها كنادلة في مطعم، فلا تتوقف مطالبهم ولا يقدمون الشكر والثناء على ما تقوم به، بل يطالبونها بالاستمرار في خدماتهم طالما أنهم على متن الطائرة. وتتساءل سيدني: «ماذا أفعل حيال من يحدثونني طوال الوقت عن تعبهم وإرهاقهم على متن الطائرة، فأنا لست طبيبة... كما لست ممرضة أو مربية أطفال على متن الطائرة». وأحيانا تضطر المضيفات لرفض طلب ما لا يقع في نطاق اختصاصهن، وهو ما يثير غضب الركاب، كما تقول سيدني، إذا يتهمونها في تلك الحالة بأنها عديمة الفائدة وأن من سبقوها كانوا يقومون بالكثير من الأعمال ويلبون كافة متطلباتهم. تقول سيدني: «في النهاية كثير من الركاب يطلبون الزواج من المضيفات، رغم وجود خاتم الزواج في أيديهم». وتبقى المضيفة الجوية الحلقة الضعيفة في معادلة تنافس شركات الطيران على الركاب حول العالم، فعليها دائماً إرضاء الجميع وعدم جلب المشاكل لشركتها، بأي ثمن. «صيد سهل وسلعة ترويجية» لكن الأمور تأخذ منحى جديداً بالغ الإهانة والإيلام لسيدات وفتيات فضلن العمل في خدمة الآخرين على ارتفاعات قد تزيد على 40 ألف قدم، وكان بوسعهن استثمار مقومات ترشحهن لأعمال أخرى أكثر عائداً وأقل تعباً تقوم بها نساء رخيصات، حين يشعرهن أحدهم بأنهن «صيد سهل» أو «نساء متاحات للجميع»، أو أن عليهن -بحكم عملهن وبموجب رواتبهن التي يدفعها هو وغيره من عملاء الشركة- أن يستجبن لمداعبات هذا وذاك التي تتجاوز أحياناً حدود اللياقة إلى التحرش الجنسي لفظياً وجسدياً، إذ خلص استبيان أجرته «مفوضية تساوي الفرص» ومقرها هونغ كونغ، بالشراكة مع «اتحاد المضيفين الجويين بهونغ كونغ، نقلته شبكة CNN الإخبارية في عام 2014، أن نحو 27 في المئة من المضيفات الجويات تعرضن للتحرش الجنسي. ولا تقتصر هذه النظرة المؤلمة للمضيفة الجوية على الركاب أو زملاء العمل، إذ يبدو أنها أيضاً نظرة شركات طيران سعى بعضها للتربح وتعظيم عوائدها، أو لإنقاذ موقفها المالي، بتعرية أجساد مضيفاتها، تماماً كما كما فعلت شركة «سكاي مارك إيرلاينز»، حين أرغمت مضيفاتها على ارتداء زي موحد جديد للشركة يكشف جزءاً كبيراً من القسم السفلي من أجسامهن لجذب مزيد من الزبائن، الأمر الذي احتجت عليه المضيفات. وكانت الشركة تعتزم تعميم زي على مضيفاتها لا يغطي أبعد من الأرداف. وذهبت شركات الطيران الأمريكية إلى أبعد من ذلك حين لجأت إلى استخدام أسلوب إباحي يقوم عرض صور عارية لبعض المضيفات في خطوة لجذب المسافرين إلى الحجز لديها. وفق ما نقلته شبكة CNN. ولجأت شركة الخطوط الجوية النيوزلندية إلى عرض شريط فيديو، تظهر فيه خمس من مضيفاتها وهن يقمن بشرح إجراءات السلامة في الرحلات الجوية عاريات، لا يغطيهن سوى طلاء. وشهد عام 2007 احتجاج المضيفات الجويات في هونج كونج على إعلان لساعة يد فاخرة مصممة للطيارين تحت شعار «تراها (الساعة) عادة على الطاولة المجاورة لفراش المضيفات». ورأت المضيفات أن الإعلان متحيز جنسيا لأنه «يظهر المضيفات في صورة سيدات متحررات يقمن علاقات جنسية مع الطيارين لمجرد امتلاكهم لساعة يد لطيفة». وفي 2010 نددت نقابة مضيفات الطيران الأسترالية بإعلانات تحطّ من قدر العاملات في مجال الضيافة الجوية، وطالبت بوقف إعلان روسي يصور مضيفات جويات يقمن بغسل طائرة مرتديات لباس البحر. وجاء الإعلان الروسي عقب تسريب صور التقطت لتقويم أكبر شركة طيران روسية (إيرفلوت) لمضيفة طيران عارية تماماً. مخاطر صحية ويبقى السؤال، ما المزايا الإضافية الكبرى التي تحصل عليها امرأة تمضي عمرها في خدمة أشخاص بعضهم غريبو الأطوار على متون طائرات تحلق من قارة إلى قارة؟ يقول الطبيب الكويتي الدكتور مبارك علي مبارك الدوب، طبيب الأمراض الباطنية واختصاصي أمراض المناطق الحارة واستشاري طب الطيران، لصحيفة (الشرق الأوسط): إن كثرة الطيران تحدث تلفاً وجفافاً لبشرة المرأة وإحساساً بالقلق، يؤثر في نضارتها. كما أنه يفقد العينين بريقهما نتيجة تعرضهما للجفاف داخل الطائرة، وما ينطبق على المرأة ينطبق على الرجل أيضاً، لكن المرأة أكثر تعرضاً للظواهر المذكورة. كما أثبت باحثون من جامعة جورجيا الأميركيّة في دراسة لهم نشرت في ال International Archives of Occupational and Environmental Health أن اضطراب الساعة البيولوجيّة لدى المرأة يجعلها أكثر عرضة للإصابة بسرطان الثدي. ودرس الباحثون وضع مضيفات الطيران اللواتي يعملن في الليل والنهار، وتبيّن أنّهن أكثر عرضة للإصابة بسرطان الثدي.