بصمة ناصعة    "شبكة إيجار" تُسجّل أكثر من 10 ملايين عقد إيجاري مُنذ إطلاقها    بيولي: نفتقد بروزوفيتش أمام الريان    الخليج يخسر أمام ماغديبورغ في كأس العالم للأندية لكرة اليد    الموارد البشرية تعتمد لائحتي المنشآت الاجتماعية لدعم الأشخاص ذوي الإعاقة    هيئة تقويم التعليم تطلق الاعتماد المدرسي الوطني    "روائع الأوركسترا السعودية" تتألق في لندن بمشاركة 100 مبدع سعودي    الرياض تقرأ من حبر أقلامهنَّ    "لحظات العُلا" تطرح تذاكر مهرجان الممالك القديمة لهذا العام    الامتيازات التنافسية لمياه الشرب المستوردة    "الصحة" تغرّم 3 شركات طيران لمخالفتها أحكام نظام المراقبة الصحية في منافذ الدخول    جندلة    حزين يا صديقي أكثر من اللازم !    فبركة مقاطع الذكاء الاصطناعي !    برئاسة المملكة.. القاهرة تستضيف اجتماعات محافظي المصارف العربية    اللبننة مجدداً.. أو الفوضى الخلاقة!    طريقة إعداد السم    «نحلم ونحقق».. أيقونة وطن!    ليلة «وستمنستر».. يا هي ليلة !    لجنة عاجلة لكشف ملابسات الازدحام في أحد مقرات «الشؤون الإسلامية» بالرياض    الشباب يتغلّب على الرائد بهدفين في دوري روشن للمحترفين    الاتفاق يتعادل مع التعاون في دوري روشن    منتخب السعودية للشباب يتعادل مع أستراليا ويتأهل لكأس آسيا    القيادة توجه بتقديم مساعدات طبية وإغاثية للشعب اللبناني الشقيق لمساندته في مواجهة هذه الظروف الحرجة    أطفال ينثرون الفن والشعر احتفاء بيوم الوطن أمام محافظ القطيف    الدفاع المدني ينبّه: استمرار هطول الأمطار الرعدية على بعض مناطق المملكة    سعود بن جلوي يرعى حفل تعليم جدة بمناسبة اليوم الوطني    الخدمات الرقمية وتمكين المرأة السعودية    عبدالحميد والتجربة الإيطالية    جلسة حوارية في «معرض الكتاب» عن الاستثمار في قطاع النشر    «معامل البحر الأحمر» تفتح باب التسجيل للموسيقى والصوت    القاص محمد البشير يكشف سر التعلق بالقصة في «كتاب الرياض»    "ذهب الحسا".. حينما تتحول التمور منصةً استثماريةً واعدةً    إسرائيل تكثف قصف الضاحية الجنوبية و«حزب الله» يتعهد بمزيد من الهجمات    نجاح تركيب مفصل صناعي بالروبوت في المدينة    محافظ الأحساء يشدد على سرعة إنجاز الخدمات للمستفيدين    من هم قادة «حزب الله» الذين قتلوا مع نصر الله ؟    مركز الملك سلمان يدعم المرأة اليمنية    مختصون يبحثون دور التكنولوجيا الرقمية في التصدي للإرهاب الفكري    استشهاد رجلين من الدفاع المدني في حريق سوق جدة الدولي    سعود بن بندر يلتقي القيادات الأمنية بالشرقية    أمير الشرقية يتسلم تقرير اليوم الوطني    كازاخستان تصارع من أجل توافق إنتاجها مع قيود حصص أوبك +    «سعود الطبية» تطلق حملتها للتحصين ضد الأنفلونزا الموسمية    سمو نائب وزير الحرس الوطني يستقبل الكاتب والمستشار الاعلامي محمد ناصر الأسمري    تعاون بين "حقوق الإنسان" ومؤسسة الأمير طلال الخيرية لتعزيز حماية الطفل وحق الأمومةl    أرفى تنظم أول معرض تفاعلي رقمي في الشرق الأوسط للتصلب المتعدد    «دوريات المجاهدين» بجدة تقبض على شخص لترويجه مواد مخدرة    سحب رعدية ممطرة على جازان وعسير والباحة ومكة    البرلمان العربي يدين الموقف الدولي المتخاذل.. مطالبة بوقف فوري للعدوان الإسرائيلي على غزة    الزواج التقليدي أو عن حب.. أيهما يدوم ؟    دور أمانات المناطق في تحسين تجربة المواطن والمقيم    الرّفق أرفع أخلاق نبينا الأمين    يوم مجيد توحدت فيه القلوب    الزهد هو المجد في الدنيا والمجد في الآخرة    مروّجو الأوهام عبر منصات التواصل الاجتماعي    رابطة العالم الإسلامي ترحب بإعلان المملكة إطلاق «التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين»    بحضور 3000 شخص.. أحد رفيدة تحتفل باليوم الوطني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من باريس إلى القاهرة الحرية المزعومة!
نشر في الجزيرة يوم 14 - 01 - 2015

كان بوسع عبيد الماضي أن يتحرروا من ربقة العبودية بتسليم أحدهم رقبته إلى أنشوطة مدلاة من سقف، أو ابتلاع جرعة سم زعاف، أو التردي من قمة جبلية، لولا حب الحياة، وحُلمٌ يسكنهم ويسكننا أيضاً أن يتبدل وجه الحياة، من دون حاجة لاتخاذ قرار الموت. لكنّ بعض دعاة الحرية اليوم في زمن أصبحت فيه العبودية ماضياً، ليس لديهم استعداد للصبر ولو لساعة على الحرمان من أي من بنود حريتهم الكاملة، وفق مفهوم حرية غربي يسعى أصحابه لإخضاع العالم له، في مشهد استبداد لا يقل حدة عن استبداد أعتى طغاة العالم قديماً وحديثاً. فلا أعرف قوماً قديماً أو حديثاً يملكون هذا القدر من التشبث بالرأي الذي يملكه دعاة الحرية الجدد، إلا كبار رؤوس الاستبداد في العالم، وعتاة المتطرفين، ذلك المثلث بالغ الغلو إلى حد فرض الرأي بقوة السلاح وتصفية الآخر جسدياً، وإن كان من يدفع ثمن غلو بعض دعاة الحرية آخرون ربما لم يشاركوهم آراءهم، لكنهم دفعوا ثمنها حياتهم، في مشهد مجازفة بحق الآخر في الحياة، فقط من أجل الحق في إبداء الرأي، حتى إن كان رأياً سخيفاً أقرب إلى السخرية واستفزاز مشاعر الآخرين منه إلى الطرح الموضوعي مثل هذا الذي اتخذه شخص أو اثنان، ودفع ثمنه نحو ثلاثين ضحية، بين قتيل وجريح أمام مبنى مجلة (تشارلي إبدو) في العاصمة الفرنسية في السابع من يناير 2015.
لا أحد يقر الإرهاب والقتل على الهوية الذي تمارسه جماعات متطرفة من المسلمين أصابها سعار الدم، حفنة المرضى والمتخلفين والجهال الذين يجروننا جميعاً إلى مصير يبدو أنه سيكون أسوأ من المصير الذي لاقيناه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، على أيدي أسلافهم في صناعة الإرهاب، ويجعلون من الإسلام معادلاً موضوعياً للموت، ويجعلون من كل مسلم يمشي في طريق من طرقات العالم مشروع قنبلة مؤقتة، وهو ما نرفضه وندينه ونبرئ الإسلام كدين منه، لكننا في الوقت نفسه لا نقر هذا التطرف في التشبث بحق التعبير مهما كان جارحاً للآخرين ومستفزاً لمشاعر الملايين حول العالم، فلا أعلم أي رأي ذلك الذي كان يعبر عنه رسام صحيفة (يولاندس بوستن) الدنماركية، الذي أعادت نشره مجلات وصحف أخرى منها شارلي إبدو الفرنسية، وهو يسخر من دين مئات الملايين حول العالم، ويجسد رسولهم في هذه الصور المهينة، فما الذي كان يتوقعه هذا أو يبحث عنه بعد خروج الملايين في شوارع العالم محتجين في حينها من دون أن يلتفت إليهم أحدٌ بكلمة اعتذار، اللهم إلا هذا الحديث البائس عن الحق في الحرية وحق التعبير، وكأننا نعيش في عالم من الفلاسفة سيحجز وكلاؤه مقاعد على أول طائرة متوجهة إلى (عاصمة الدنمارك) أو باريس ليدخلوا في محاورات أفلاطونية مع رسام (يولاندس بوستن) أو رئيس تحرير (تشارلي إبدو)، لا عالماً أصبح كل شبر فيه مشروع هدف لفوهات أسلحة الفصائل المتطرفة من جميع الديانات والمذاهب الفكرية وقنابلهم الطائشة، وإن كان المسلمون منهم -مع الأسف- يتصدرون المشهد الآن، لكن علينا ألا ننسى على الإطلاق أن العالم فيه أيضاً، نازيون جدد، وبيجيدا المناهضة للإسلام، ومتطرفون بوذيون في أراكان (ميانمار) يضرمون محارق -وأحياناً مسالخ- جماعية لمسلمي الروهينجا الذين صنفتهم الأمم المتحدة أكثر الأقليات تعرضاً للاضطهاد في العالم، ومتطرفون هندوس يسعون لإجبار مسلمين ومسيحيين في بعض قرى الهند على الدخول في الهندوسية، ومتطرفون يهود يتلذذون بسحق أجساد الفلسطينيين بعجلات سياراتهم في القدس، ويستولون على منازلهم ومزارعهم في بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومتطرفون صرب نفذوا إحدى أكبر مجازر التاريخ في حق مسلمي سربرينيتشا التي شهدت، إضافة إلى الاغتصاب الجماعي لمئات المسلمات هناك، تلقيح أرحام بعضهن بأجنة كلاب، وغيرها من الفصائل المتطرفة، فضلاً عن هواة التطرف والمهزوزين نفسياً الين يقررون فجأة من وقت للآخر فتح النيران على جيرانهم وأصدقائهم وزملائهم في العمل والدراسة والجيش، بل على آبائهم وأمهاتهم، فما الذي كان يتوقعه مسؤولو (يولاندس بوستن) و(تشارلي إبدو) وغيرهم، وهم الذين لم يكونوا أقل تطرفاً في تشبثهم بحق حرية التعبير الذي يدعونه من وجهة نظرهم الخاصة، حتى لو كان الثمن إحراق العالم، والنفخ في نيران صراع الحضارات والأديان المشتعلة أصلاً، وتقويض جهود دعاة السلام والحوار من عقلاء في هذا العالم. لكن يبدو أن تقديرات دعاة الحرية في (تشارلي إبدو) لم يكن وارداً فيها، أن النيران التي أسهموا في إضرامها ستطولهم، مع التأكيد على أننا لا نقر ما حدث من قتل ودماء داخل أروقة هذه الصحيفة وندينه بأشد العبارات.
أقول هذا وأنا أتحدث بلسان حال ملايين المعتدلين من المسلمين الذين ينزفون حسرة لما يلصق بدينهم اليوم من اتهامات، الإسلام أبعد ما يكون منها، فما أكثر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تجرم سفك دماء الأبرياء العزل من المسلمين وغير المسلمين، وما أعظم العقوبة التي توعد بها الله سبحانه وتعالى من يقدم على ذلك، لكن يبدو أن هذه الكائنات المتطرفة، لديها تفسير خاص للدين مختلف عن جميع ما يتفق عليه علماء المسلمين منذ العهد النبوي حتى اليوم، ولقد وجد هؤلاء في استفزازات دعاة الحرية المطلقة غير المشروطة في (تشارلي إبدو) وغيرها، مبرراً لزحف شلال الدم الذي يواصلون حفرَ أخاديده في كل بقعة من العالم، وهو ما لا نتفق معهم فيه وندين هذا النوع من السلوك.
لكن مشهد التطرف في انتزاع حق حرية بلا حدود، يتسع لأكثر من صحافيي (تشارلي إبدو) وغيرها، حيث نطالع دعاة الحرية الغربية من منظري منظمات حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني العاملة في ميدان الحرية وتنمية الديمقراطية، سواء من خلال مقارهم الرئيسة في واشنطن وجينيف ولندن وباريس وغيرها من عواصم العالم، أو من خلال مكاتبهم وجمعياتهم التي أصبحت تتكاثر بسرعة البكتيريا في كل مدينة وقرية في بلدان ما يُسمى بالربيع العربي، وكلها تهتف بهذا النوع من الحريات الذي سول لبعضهم أن يسيئوا الأدب في الحديث عن تعاليم الإسلام والمسيحية على السواء ويهينوا رموز الديانتين في مصر على سبيل المثال، حتى المؤسسات الرسمية والقائمون عليها حالياً لم تسلم من هذه الإهانة والاستهداف بدعوى حق حرية التعبير، أما على الصعيد السياسي، فقد أراد هؤلاء إبان الثورة المصرية -على سبيل المثال- وما تلاها من تداعيات، حرية بلا حدود، حرية لم نعرف لها وجهاً سوى التظاهر كل يوم، ليلاً ونهاراً مصحوبة بالتفجيرات وإثارة الفوضى في الشوارع والمؤسسات. انتشرت عدوى التظاهر فلم يسلم منها ميدان أو طريق أو مصلحة حكومية، فأصبح كثير من الموظفين يباشرون عملهم خارج مباني المؤسسات، فضلاً عن دعوات العصيان المدني اليومية التي سعى منظموها إلى شل مظاهر الحياة في مدينة كالقاهرة، تظاهرات حتى ضد قانون تنظيم التظاهر، هكذا يريدها هؤلاء حرية بلا حدود، وبلا قانون، وبلا شعور بالمسؤولية، في بلد فيه ملايين مهددون بالجوع واقتصاد مهدد بالانهيار، لكن هؤلاء لا يعبأون، المهم الحرية ولو كانت مخالفة لكل الأعراف والقوانين، وليَجُع من يجوع، ولتذهب الأوطان إلى الجحيم، وليُقَدَّم أمن الناس وسلامتهم وقُوْتهم ومستقبل أبنائهم قرابين على مذبح هذا الصنم المدعو الحرية، وليذهب ملايين المصريين إلى الجحيم، وليقف ملايين المسلمين في الشوارع غاضبين من أجل صنم الحرية الذي نصبه صحفيو (تشارلي إبدو) وغيرها في باريس وغيرها من العواصم الأوروبية، وكل ما نخشاه أن تبدأ من باريس نذر الحرب الأهلية ضد وجود المسلمين المهاجرين، وأن تشتعل برلين تحت زحف (بيجيدا) المناهضة لانتشار الإسلام، وأن تشتغل لندن بضواحيها وتبدأ في تنفس هواء كراهية الوجود الإسلامي ويتعرض المسلمون فيها لاعتداءات، وهو ما لا نتمناه، ونرفضه، ونتمنى على دول العالم أن تطوقه بإعادة النظر في مفهوم الحرية وحرية الرأي، فالعالم يحتاجإلى الهدوء والأمن والاستقرار، بعيداً عن حالة الاحتقان المصحوبة بإهدار دماء الأبرياء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.