تسببت التراجعات في الأسعار العالمية للنفط في إثارة مخاوف قديمة من وجود تداعيات سلبية على عمليات التنمية الاقتصادية بدول مجلس التعاون الخليجي، وخاصة في ضوء أن هذا التراجع ينحدر بأسعار النفط لأدنى مستوى لها خلال 4 سنوات تقريباً.. حيث هبط سعر خام برنت إلى أدنى مستوياته في 47 شهراً في يوم الأربعاء الماضي ليصل إلى 84 دولاراً للبرميل.. وسجل أعلى خسائره اليومية في أكثر من ثلاث سنوات في يوم الثلاثاء الماضي بعد أن خفضت وكالة الطاقة الدولية توقعاتها للطلب العالمي على الخام لعامي 2014 و2015.. بل وساهم ضعف أسواق الأسهم الأوروبية في زيادة الخسائر حيث لامس سعر برنت في العقود الآجلة تسليم نوفمبر مستوى 83.37 دولاراً للبرميل.. في المقابل فقد سجل سعر الخام الأمريكي تراجعاً إلى مستوى 80.74 دولاراً للبرميل في يوم الثلاثاء الماضي بعد أن سجل أكبر خسائره اليومية خلال عامين. لم يقتصر الأمر على ذلك بالمملكة العربية السعودية، بل تزامن مع تراجع حاد في سوق الأسهم السعودية خلال الأسبوع الأول من تداولاته بعد العيد مباشرة حوالي 1304 نقطة أو ما يعادل 12.0%.. بل بدأت تثار تساؤلات حول إمكانية تأثير ذلك على موازنة الجديد في ضوء توقعات تأسيس خام برنت لمستويات جديدة عند ال 90 دولاراً للبرميل خلال عام 2015م.. فهل هذه المخاوف حقيقية.. حتى بمعرفة مدى النجاحات التي حققتها المملكة في مضمار التنويع الاقتصادي؟. توقعات وكالة الطاقة الدولية تقود تراجع أسعار النفط ما قد يغيب عن البعض هو أن التراجع في الأسعار العالمية للنفط هو تراجع قصري وحدث بشكل أقرب للتعمد، حيث حدث كنتيجة طبيعية لإطلاق وكالة الطاقة الدولية لتوقعاتها للطلب على النفط في عام 2015م.. فالتراجع لم ينجم عن حدوث أي تغييرات فعلية في إنتاج النفط أو إمداداته، ولكنه جاء في ضوء تكهنات مرتبطة بأحجام العرض والطلب في المستقبل القريب.. بناء على توقعات معدلات النمو الاقتصادي بالعالم.. حيث كشف التقرير الشهري لوكالة الطاقة الدولية الصادر الأسبوع الماضي عن تخفيض توقعاتها لنمو الطلب على النفط خلال عام 2014 لأدنى مستوياته منذ خمس سنوات، حيث خفضت تقديراتها للكميات المطلوبة من النفط هذا العام بنحو 200 ألف برميل يومياً لتصل إلى 700 ألف برميل يوميا.. ومع ذلك، فإنها تتوقع أن يتحسن الطلب على النفط خلال العام المقبل حيث تقدر زيادته بواقع 1.1 مليون برميل يومياً.. وتظهر المؤشرات المقدرة توقع ارتفاع إنتاج النفط خلال الشهر الماضي إلى 30.7 مليون برميل يومياً ليشهد بذلك أعلى مستوياته منذ 13 شهراً، وذلك بفضل الزيادة الكبيرة في إنتاج أعضاء أوبك.. بالتحديد، فإن هناك تكهناً كبيراً بأن عام 2015م سيشهد نمواً أضعف في الطلب وبالتالي تراجعاً أعلى في الأسعار، بحيث تزيد مستويات التراجع المقدرة عن مستوى 88 دولاراً للبرميل الذي انحدر إليه مؤخراً سعر برنت. ضعف التنسيق بين أوبك تضم أوبك 12 دولة تمثل هي المصدرين الرئيسيين للنفط تملك الدّول الأعضاء في هذه المنظّمة 40% من الناتج العالمي و70% من الاحتياطي العالمي للنّفط.. إلا إن هذه الدول تعتمد على صادراتها النفطية اعتماداً كبيراً لتحقيق إيراداتها.. إلا إنه ظهر مؤخراً نوع من التسابق بينها لطرح أعلى كميات منتجة بالسوق.. إن الأرقام تؤكد على أن غالبية دول أوبك تنتج يوميا كميات تفوق حصصها المقررة بأوبك.. بل إن هذه الكميات تصل في كثير من الأحيان إلى السقف الأعلى للكميات التي يمكن أن تنتجها كل دولة.. أيضا، فإن الاضطرابات السياسية في دول مثل ليبيا والعراق وإيران، قد تدفعها في كثير من الأوقات إلى إنتاج أعلى سقف إنتاجي ممكن للحصول على أعلى إيرادات ممكنة لتسيير أمورها الاقتصادية في ضوء التوقف للأنشطة الاقتصادية الأخرى. أيضاً تشير الإحصاءات إلى تأثير حصة إيران على زيادة المعروض العالمي من النفط بعد دخول الاتفاق المبدئي لتخفيف العقوبات الغربية حيز التنفيذ، بحيث أنها بدأت تستحوذ على حصة هامة في التصدير لكبار المستوردين الآسيويين، وخاصة الهند. أضف إلى ذلك، التنامي الكبير في إمدادات المعروض من خارج المنظمة حتى وصلت إلى 2.1 مليون برميل يومياً، وتشير التوقعات إلى ارتفاعها إلى 1.3 مليون برميل في عام 2015م.. فضلاً عن التحسن في الإمدادات من النفوط غير التقليدية بالعديد من الدول الصناعية. نحن الآن نتحدث عن 93.8 مليون برميل منتج يومياً. كل هذه العناصر تسببت في فوضى أو ربما تجاوزات في الكميات المنتجة، بما عزى بالمعروض النفطي تجاوز حدود الطلب العالمي، الأمر الذي أوجد مخزونات لدى كثير من المستهلكين الرئيسيين.. جميعها أثرت سلباً على مستويات الأسعار العالمية وخاصة في التعاملات الآجلة. الأمر المستغرب حتى الآن عدم وجود أي تنسيق حقيقي على الأرض داخل أوبك على تخفيض أو حتى تنسيق مستويات إنتاجها اليومية للحد من التراجع في الأسعار.. إنه سباق للإنتاج الأعلى والضغط للتراجع الأكبر في أسعار النفط. الدول الرئيسية المصدرة للنفط تدفع ضريبة تحسين نمو الاقتصاد العالمي إن الأمر المستغرب أن توقعات وكالة الطاقة الدولية لا تتوافق بشكل كامل مع توقعات صندوق النقد الدولي أو حتى البنك الدولي عن معدلات النمو الاقتصادي بالمناطق الرئيسية للعالم.. وهو ما يعطي دلالة إلى استغلال نسبي لهذه التوقعات لتحقيق أهداف معينة.. فتوقعات البنك الدولي تثير نوعاً من التفاؤل الشديد حول معدلات النمو الاقتصادي في الدول الصناعية الكبرى، في المقابل فإن وكالة الطاقة الدولية تأخذ بمنهج متشائماً في طرح معدلات أضعف للنمو في الدول الصناعية، بشكل تتوقع معه تأثيرات سلبية على تراجع الأسعار العالمية للنفط.. بالطبع الدول الصناعية الكبرى تعتبر مستهلكة ومستوردة غالباً للنفط، وهي أكثر استفادة مع تراجع أسعاره.. بل ينبغي بكل وضوح القول بأن كل تكهنات بتراجع أسعار النفط العالمية تقود في حد ذاتها تكهنات بتحسن معدلات النمو الاقتصادي بالدول الصناعية الكبرى. لذلك، فإن طرح توقعات وكالة الطاقة الدولية بتراجع أسعار النفط هي فعلا تقود تراجع حقيقي للأسعار، وهي تقود فعلا تحسن في معدلات النمو الاقتصادي بالعالم.. أي أنه يمكن القول بأن أسعار النفط العالمية تدفع ضريبة التحسن في نمو الاقتصادي العالمي، وربما بمعنى آخر، فإن الدول الرئيسية المصدرة للنفط هي التي تدفع هذه الضريبة. مجهودات التنويع تحسن قدرة الاقتصاد الوطني على مجابهة أي تراجع تشير التوقعات من أطراف دولية عديدة -مثل مصرف «باركليز»- إلى أن أسعار النفط لن تتجاوز في عام 2015م مستوى 92 دولاراً للبرميل.. وأنه ينبغي على الدول المصدرة أن تبني توقعاتها على هذه المستويات، إن لم تكن أقل منها.. إن التساؤل الذي يثير نفسه: كم هو مستوى أسعار النفط التي تحافظ على الحد الأدنى لمعطيات التنمية الاقتصادية بدول مجلس التعاون؟. لله الحمد، فإن الموازنة السعودية يتم بناء تقديراتها دائما على «سياسة التحفظ» في تقدير الأسعار العالمية للنفط، فموازنة عام 2014م لا تزيد تقديراتها لسعر النفط عن 75 دولاراً، وبالتالي وفي الاعتقاد أن الميزانية الفعلية لعام 2014م آمنة ضد أي عجوزات كبيرة بإذن الله.. نأتي لموازنة عام 2015م، فإننا نتوقع أن الحكومة ستبني تقديرات أقل للسعر العالمي للنفط وربما تصل به إلى مستوى 60 دولاراً، إلا إنه من المتوقع التمسك بنفس مستوى الانفاق الحكومي المقدر لعام 2014م ولو مع تقبل عجز ضئيل. إن الأمر المثير للتفاؤل أن الارتفاع في أسعار النفط خلال السنوات الأربع الأخيرة قد أدى إلى تحسن جوهري في هيكلية الاقتصاد السعودي، بحيث بات واضحاً مدى التحسن في معدلات التنويع الاقتصادي، حيث إن مساهمة النفط في الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة أصبحت لا تزيد عن 19.6% في النصف الأول من عام 2014م بعد أن كانت تزيد عن 40% في الماضي.. حيث تساهم القطاعات غير النفطية (القطاع الخاص والحكومي) بالاقتصاد السعودي حاليا بما يناهز 79.8% بالأسعار الحقيقية، الأمر الذي يعطي دلالات نسبية عن نجاح مجهودات التنويع الاقتصادي، بشكل يحجم بشكل واضح من مخاوف التراجع في أسعار النفط. المعايير الجديدة الحاكمة لتراجع أسعار النفط في الماضي كانت الأسعار العالمية للنفط تحكمها اضطرابات متغيرة كانت توصف بالعنيفة في كثير من الأحيان.. والمخاوف الحالية التي يثيرها البعض من تراجع أسعار النفط حالياً مبنية على الانطباعات القديمة عن هذه التراجعات.. إلا إن المدقق في المستجدات الأخيرة ليعلم أن تراجعات أسعار النفط اختلفت كثيراً عن معطياتها في الماضي، حيث إن هذه التراجعات أصبحت تحكمها عناصر جديدة، أهمها اعتماد الابتكارات والتقنيات الحديثة في صناعة النفط، وخاصة النفط الصخري الذي تتصدر الولاياتالمتحدة ابتكاراته تعتمد على سعر النفط المرتفع، فهذه التقنيات تقوم على ارتفاع الأسعار العالمية للنفط، وبدون هذه الأسعار العالية تموت هذه التقنيات وتصبح عديمة القيمة.. لذلك، فإن الدول الصناعية نفسها الآن تقود حملات دولية للموازنة ما بين اضطرابات أسواق النفط وما بين انحدار أسعاره.