في السابق كنا نعيش في عالم افتراضي مع الأجهزة والتقنيات أما الآن فنحن نعيش هذا العالم بكل تفاصيله وأبعاده ليكون عالما واقعيا في مجالسنا وأحاديثنا وسلوكياتنا حتى أنه تطفل ليحكم علاقتنا الداخلية بين أسرتنا والخارجية مع الأصدقاء وغيرهم، ثم غدا هذا التطفل أمرا طبيعيا لا يمكن الاستغناء عنه بأي حال من الأحوال فوصل إلى مرحلة يربي فيها أجيالا منهم الصالحين ومنهم الطالحين ومنهم ما بين ذلك وذاك، وهذا التدخل لم نكن مجبورين عليه بل كنا أول من رحب بهذا الضيف وأعطاه الأحقية حتى أصبح مربيا للأبناء في كثير من منازلنا بل إنه تدخل في آرائنا وحواراتنا بين ذواتنا وبين الآخرين وكل هذا بالطبع كان بمحض إرادتنا فنحن من اخترنا أن نكون منقادين لتلك الأجهزة دون أن تكون مفروضة علينا. فقبل الحديث عن هذا المربي وآثاره النفسية، الاجتماعية، الاقتصادية وغيرها سوف أطرق باب هذا المربي مستأذنا منه بذكر إيجابياته فهو بلا أدنى شك قدم لنا ثورة معلوماتية هائلة تمكنا من خلالها الوصول إلى العلوم والمعارف بكل أريحية دون أن تكون هناك مصاعب تواجهنا أو تعرقل مسيرتنا، ولا شك أيضا أننا أصبحنا في الصفوف المتقدمة بعد أن كنا في أواخرها. وهذه الآثار حقيقة لم تكن حصرا على المسلمين دون غيرهم فقد طالت تلك الآثار مشارق الأرض ومغاربها لتطرق الباب قبل أن تكون فردا من أفراد الأسرة التي يود أن يكون فيها هذا المربي الجديد، فمنهم من قبل به وجعله يحل محله ليربي ويعلم أبناءه دون مراقبة منه بل إنه منحه ثقة عالية ليزرع في أبنائه فلذة كبده ما يشاء، ومنهم من أبى ذلك فعاش في ظلمات الجهل دون تقدم يذكر ومنهم من رحب به ولكن وضع له حدودا وقوانين صارمة لا يمكنه أن يتخطاها حتى يضمن استمراريتها بالشكل الفعال على أسرته. هذه التقنيات الحديثة والتي حازت على لقب «المربي الجديد» بكل جدارة كان لها الجانب السلبي الذي لا يمكن إخفاؤه أو التغاضي عنه، فهي بتلك الآثار السلبية والتي لم تقف الأسر حيالها بالشكل الصحيح استطاع أن يدمر أسرا أو استطاع أن ينال بجزء من كيان الأسرة والذي لا يمكن الاستخفاف به من حيث الدمار الذي حققته تلك الأجهزة. قد يقول القارئ إني أبالغ في هذا الوصف ولكن دعونا نأخذ بعضا من هذه المشاهد التي نشاهدها في كل أسرة تقريبا فلا يكاد يكون هناك طفلا أو شابا ذكرا كان أم أنثى لا يملك تلك التقنيات الحديثة فنحن لسنا ضدها بالطبع ولكن ضد إساءة استخدامها ومنحها للأبناء بشكل عشوائي فهم يمضون ساعات طوال ليلا ونهارا أمام تلك الشاشات ولا ندري ماذا يشاهدون أو ماذا يتعلمون من تلك الأجهزة إلا بعد أن يقع الفأس بالرأس خاصة في السنوات المبكرة من أعمارهم لأنهم ثمر سوف يثمر فترة الشباب ويعطي نتائجه فيها. فقد يتأثر الطفل بما يشاهد في اللحظة الآنية وقد تتراكم ليظهر أثرها على المدى البعيد. فماذا نرجو من أبناء نريدهم أن يصلوا أرحامهم وأعينهم محدقة أمام تلك الشاشات وهذا لا يخص الأبناء للأسف بل طال أثرها إلى المربين الذين من المفترض أن يكونوا قدوة حسنة لأبنائهم،فهم حين يريدون الحوار بموضوع ما أو أثناء زيارة عائلية مع المربي يجدونه أمام تلك الشاشة ويرد الكلمة والكلمتين ثم يصمت ليرسل عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن أهمية الحوار وصلة الأرحام وهو غائب عن هذه الكلمات بالأفعال فماذا نأمل إذا من أبنائنا الذين أصبحت مشاعرهم باردة، لا يميزون بين الصواب والخطأ إذا كان المربي فيها أساسا في غياهب الجب. وهذا انعكس على حديث أبنائه فتجدهم مقلين في المعارف التي تنير عقولهم، يفتقدون معنى الحوار الفعال لأنه انشغل بالكتابة ليراسل فلان وفلانة ممن يعرف وممن لا يعرف. وهذا الأمر امتد ليكون الأبناء منعزلين عن العالم الخارجي، مغيبين أهمية مستقبلهم ورسم أهدافهم والتخطيط لها. فنحن في حقيقة الأمر نزيد من أرباح الشركات ونخسر أبناءنا لأننا لم نقيد استخدام تلك الأجهزة وفق أوقات وقوانين، بل جعلناها تربي وتعلم وبعد أن تحدث أي نتيجة عكسية يبدأ كل مربي يلوم شريك حياته متناسيا أن لكل منهما عتبا ولوما سوف يحاسبون عليه وفق ما جنوه على أبنائهم. لذلك آمل من كل مربي ذكرا وأنثى أن يكون قريبا من أبنائه يحاورهم في مواضيع عديدة تهمهم وتهم عالمهم الارجي مهما اختلفت الآراء، يسمع شكواهم ويساندهم، يساعدهم على فهم مستقبلهم في تحديد أهدافهم بدلا من الوقت الذي يضيع سدى أمام تلك الأجهزة فهم شركاء معنا في هذه الحياة وليسوا أبناء بالاسم فحسب.