في عصر الشكليّات، والفرقعة، والبرستيج، اختلط الحابل بالنابل، حتى الكتابة المضنية المُسْتَنْزَفِ صاحبها ظنّوها نعيما، ومهنة يستطيع أي أحد ممارستها، فشغفوا بها حبا، وهمّوا بها ولم تهمّ بهم، واغتصبوها فماتت بين يدي أقلامهم! الكتابة وجه من أوجه القراءة، كل كاتب قارئ بالضرورة، لكن ليس كل قارئ كاتباً. القراءة في أصلها للنفع والوعي والتبصر والمتعة وليست لأجل الكتابة، والكتابة في أصلها للنفع وتبادل الخبرات، كلتا القراءة والكتابة ليستا مقصودتان لذاتهما بل لما يترتب عليهما، هما وسيلة لا غاية، فمن عدهما الغاية وسعى لهما ولأجلهما؛ لأجل المكاثرة بالقراءة، والتترف بالكتابة، لا لأجل ما يستحلبه من القراءة، وما يجبره ويهيجه للكتابة؛ فإنهما حينئذ عبث عليه وعلى من يقرأ له، ورماد تذروه الرياح لا ينفع صاحبه ولا من حوله. لم تخلق القراءة والكتابة للافتتان بهما والتباهي بهما تزيّدا وتزبرقا ومخالفتهما في العمل والواقع وأمام الله عز وجل. الكتابة وسيلة لتحسين الواقع لا لتبجح الأقلام بالمثاليات والآليات النظرية التي هدفها التكاثر على الورق لا على الواقع. الكتابة الحقيقية المجدية؛ إنسان آخر يسكننا لا يوافق على أن يتلبس بإنسان إلا من علا ضميره وقوي حتى يستطيع أن يكون مسؤولا عما يلتمسه من قراءاته وما يسبكه من كتاباته. «اقرأ كثيرا حتى تكتب جيدا» !! لا ينتهي عجبي حين أرى أسيادنا الدكاترة ينصحون بكثرة القراءة لمن أراد أن يكون كاتبا جيدا! لو كان الأمر بتلك السهولة لصار كل قارئ كاتبا مجيدا ولأصبح كل إنسان كاتب بما أن جل الناس في هذا العصر قراء. وحين أراهم يخيطون لهذا الفن العظيم «فن الكتابة» من خيوط مهنتهم وسلطتهم ثيابا قاصرة قصيرة - تخجل الكتابة أن تجاملهم عليها فضلا عن أن تكتسي بها شاكرة لهم جهودهم - أشعر بالخجل الشديد من الانتفاشة السلطوية المهنية التي توهمهم بأنهم ذا بال في كل شيء! الكتابة لا تعترف بمقاييسهم وما تمليه عليهم أهدافهم أو قصورهم؛ نعم، لا تبالي الكتابة الحقة بأن تكون خطابية أو غيرها سهلة أم غامضة...إلخ، الكتابة لا تبالي ب (بروفاتهم) المتكلّفة الضيّقة لأنها تصنع نفسها بالشكل الذي تختاره بذوقها الرحب لا بذوقهم المتلهف للصدارة. ولا أدلّ على فشلهم وفشل نصائحهم من فشلهم التويتريّ حيث ترى صفحة ال د أو ال أ.د في التويتر إعادات للتغريدات وكتابات تناسب طلاب البكالريوس ولا تناسب مراتبهم العلمية ولا أعمارهم وعلمهم! لا تحدثني أن فلانا تخرج بتقدير ممتاز وهو الأول على دفعته لأن كل ذلك هباءً إذا لم يفرخ على أرض الواقع وينبت كل ذلك لن ينفعه إلا بالمهنة فقط أما في الإبداع والتطوير ففاشل فاشل. لا بأس، الفشل على أرض الواقع ليس فشلا ولا عيبا مادام صاحبه واعٍ به ويلتزم حدوده، ولا يكون عيبا وجريمة إلا إذا كان صاحبه منتفشا يظن أن كل شيء يستطيعه ويفتي فيه ويغط إصبعه فيه، الجشع مشكلتهم المتجذرة، حيث لا يقنعون بالامتياز ودروع الشرف وتكريم المؤسسات ثم يوكلون التميز إلى غيرهم ممن هم أهله مهما كانت درجاتهم عالية أو متوسطة أو رديئة. فيا ليت مراكزهم وتعليمهم الحاصل على أعلى الدرجات يعلمهم ويوعيهم بالفروقات، والتعددية، وأنه لا فضائل تحكر على شخص ويحرم منها آخر، بل هي موزعة كل يمسك منها بمقبض، فليتنحوا عما ليس لهم، وليقنعوا بما أوتوا، وليتفقهوا ويتأملوا إذا حدثتهم أنفسهم بجشع، ولهؤلاء – خصيصا - أقول: صدق الرغبة لا يصنع كاتبا، وكثرة القراءة لا تنجب كاتبا، وركام الشهادات والدورات والخبرات المهنية لا تلد كاتبا أبدا! الكتابة حياة مؤلمة، بطلها الكاتب المصدوم، الموثق نفسه بالمبادئ في ظل تحرر جماعي منها. الكتابة الحقّة لوعة ولذعة ليس على الحب بل على الضمير المدهوس. الكتابة تطليق للنفس وحظوظها وزبرقتها طلاقا بائنا بالثلاث. الكتابة مقاومة، واستشهاد في سبيل الدفاع عن المبادئ والفكر. الكتابة الحقّة، بدءا موهبة، ثم شجاعة، ثمت عمل وكد خلف الضمير الحي وما يمليه على صاحبه من لأواء لا يحتملها إلا صاحبه. الكاتب في طفولته مُلاحِظ من الدرجة الأولى – رغم الحمل الثقيل لمثل هذه الصفة إذ يعيش المُلاحِظ عمره كله راشدا أكبر من عمره بكثير - لا يد له في ذلك. الكاتب ذاكرة لا تنسى أدق التفاصيل. الكاتب الحق قلب رهيف شفاف أبلج يشع بالحياة ويستقطبها؛ فينوء بحمله وحمل البشر فيهرقه حروفا نازفة تحكمه ولا يحكمها تختار طبختها ومقاديرها وتدع له اللمسة الأخيرة (طهوها بالفرن). الكاتب قارئ بالضرورة، لكنه لا يقتصر على قراءة الكتب الأقل أهمية، بل يتعداها إلى قراءة الواقع، إلى التوفيق بين النظر والتطبيق، إلى الاهتمام بواقعية المعطيات النظرية، ومدى تزمتها ومثاليتها الصرفة، أو واقعيتها المعطاءة النافعة. الكاتب قارئ للحياة للبشر لكل ما دق وجل واحتقر م ن الأشياء والناس. الكاتب نبض لا يستطيع غيره أن يختلقه مهما تفنن في تقليده أو ادعاه، فهل سمعتم بزراعة النبض أو استنساخه ؟! الكاتب مصرّ بيد أنه إصرار مع موهبة؛ فالإصرار ركيزة أساسية للمضي قدما في أي مجال لكنها حتما ليست الوحيدة وليست الأهم، ففرق بين الموهبة والذكاء؛ إذ الموهبة تولد مع الإنسان وهي فطرية لا يكتسبها الإنسان ولا يدري حتى مراحل إنتاجها قبل أن تخرج في مرحلتها الأخيرة، أما الذكاء فيشغل منه الاكتساب حيزا كبيرا إذ كلما أصريت وأكثرت التعلم وحاكيت أصبحت أذكى وصاقبت الأذكياء. الذكي ناجح رسميا، وينجح في بيئات القيود ومقاييس التقييم الضيقة، أما الموهوب فهو فوق الرسميات والمؤسسات، ولا يستطيع أن ينسجم مع القيود والتضييق، والإهدار لتميزه لحساب قانون ما أو مؤسسة ما أو شخص ما. إذن، بما أن الكتابة موهبة، وفنّ، فهي ليست بحاجة لعبثية دور الأكاديميين في إرشاديّات الكتابة، وكأنها أبجدية مهنية يسطيعون أن يتولوا أمرها ويقننوها. سأختم بمقولات لنيتشة – اقتبستها من كتابه: هكذا تكلم زرادشت – سكّها للإنسان المتميز في نظره، وأراها تنطبق على الكاتب الذي يستحق أن يطلق عليه كاتب: «لا يكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصا في قصده بل عليه أن يترصد إخلاصه ويقف موقف المشكك فيه» ص و. «عليك أن تصلي نفسك كل يوم حربا وليس لك أن تبالي بما تجنيه من نصر أو ما تجنيه عليك جهودك من اندحار فإن ذلك من شأن الحقيقة لا من شأنك» ص و. «أحب من لا يحتفظ لنفسه بشرارة واحدة من روحه» ص8. « أحب من تفيض نفسه حتى يسهو عن ذاته إذ تحتله جميع الأشياء فيضمحل فيها ويفنى» ص 9. «ليس هناك إلا قطيع واحد. إن كلا من الناس يتجه إلى رغبة واحدة فالمساواة سائدة بين الجميع ومن اختلف شعوره عن شعور المجموع يسير بنفسه مختارا إلى مأوى المجانين» ص10-11. «إن المبدع يطلب رفاقا له بين من يعرفون أن يشحذوا مناجلهم وسوف يدعوهم الناس هدّامين ومستهزئين بالخير والشر غير أنهم يكونون هم الحاصدين والمحتفلين بالعيد» ص15. «إنكم تتساءلون عن الخير وما الخير إلا الاتصاف بالشجاعة فدعوا صغيرات الأطفال يقلن: إن الخير في اللطف والجمال» ص38. «يقولون: لا قلوب لكم، ذلك لأن قلوبكم تنبض بالإخلاص» ص38. «لا تدعوا فضيلتكم تنسلخ عن حقائق الأرض لتطير بأجنحتها ضاربة أسوار الأبدية ولكم ضلت من فضيلة من قبل على هذا السبيل.. أرجعوا الفضيلة الضالة إلى مرتعها في الأرض.. عودوا بها إلى الجسد وإلى الحياة لتنفخ في الأرض روحها روحا بشرية» ص63. « إنما تنشأ فضيلتكم عندما يعجز المدح والذم عن بلوغ شعوركم» ص62. «لا ينبه الشعور الغافل إلا الإرعاد والإبراق، وما تكلم الجمال إلا بنبرات هامسة لا تنفذ إلا إلى أشد الأرواح انتباها» ص78. «إنني لأعجب لتحملي هذه الصدمات وأعجب لصبري على ما فتحت فيّ من جراح فكيف أمكن لروحي أن تُبعث من مثل هذه القبور؟» ص95. «عن العلماء... إن بي من الحماس ومن لهب الفكر ما يقطع عليّ أنفاسي فلا يسعني إلا الاندفاع إلى رحب الفضاء هاربا من الغرف المكسوة بالغبار، ولكن هؤلاء العلماء يتفيأون الظلال فلا يقتحمون السير على المسالك التي تلهبها حرارة الشمس.. وما وِجدتُ مرة بين هؤلاء العلماء إلا وكنت فوقهم لذلك أبغضني هؤلاء العلماء فإنهم لا يطيقون أن يسمعوا بمرور أي كان فوق رؤوسهم» ص107. «يجب على الإرادة ولا أعني سوى إرادة الاقتدار أن توجّه مشيئتها إلى ما هو أعظم من المسالمة» ص118. «أردتُ أن أمثّل دور الرجل العظيم فتمكنت من اكتساب ثقة الكثيرين ولكن أكاذيبي تجاوزت طاقتي ووقفت دوني حائلا اصطدمتُ به فانحطمت» ص216. « إن المبدعين قساة.. والمحبة العظمى تتعالى فوق إشفاقها « ص224 «تعلّم كما تعلّمتُ أنا.. فلا يتعلّم إلا العامل المختبر « ص225 « أيها المبدعون.. فضيلتكم تتوقف على ألا تفعلوا شيئا من أجل أحد أو بسبب أحد أو لأية علة» ص244 «أنا الضاحك الصبور المتسامح.. المحب للوثوب وتجاوز المحدود.. أنا المتوّج نفسي بنفسي» ص248 «من الخير أن نردع الكثيرين عن العزلة والانفراد.. فما ينمو في العزلة من الإنسان إلا ما استصحبه إليها من حوافز.. وهناك المجال لنمو الحيوان الكامن» ص245. نيتشة هنا يتحدث عن أن العزلة لا تصلح لأي شخص وإيرادي لمقولته هذه قصدت بها من يتصنع الكتابة فيعتزل تقليدا لمن يعتزلون بالفطرة فلا يخرج لنا إلا بحيوانه الكامن وأمراضه المستعصية التي لا تسمن من جوع لكنها تورم من مرض! خاتمة.. الكتابة الحقّة من يتمنّع صاحبها عنها، وتتعرض له، حتى لا يملك أمامها إلا الوقوع في شركها.