يمكننا أن نطرح قضية الفساد من وجهتها الثقافية القانونية في ظل المنظومة الثقافية للمجتمع نفسها وهي التي يتوقف عليها مصداقية مكافحة الفساد ومحاصرته. فنحن لا نحتاج فقط إلى هيئة لمكافحة الفساد ولا لأنظمة قانونية تتيح للسلطات القدرة على الحركة في مواجهة الفساد.. بل نحن في حاجة إلى بناء منظومة متكاملة في أفق ثقافي واقتصادي وقانوني وإداري. لو أنا - على سبيل المثال- تخيلنا أنفسنا كأفراد واقعين تحت طائلة القانون فإننا سنبحث مباشرة عن مخرج سريع ولا ينتمي إلى القانون بصلة؛ سنبحث عن واسطة، وسنجري اتصالاتنا وننشئ تحالفاتنا، وفي ظل بطء الإجراءات القانونية فإننا سنفضل الحلول الأسرع. ولنتخيل في الوجه الآخر أن الإجراءات القانونية سواء في إطارها الجزائي في مرحلة التحقيق أو في مرحلة المحاكمة تتمتع بالسرعة الكافية والكفاءة العملية فإن الرغبة في تسريع العجلة البيروقراطية ستقل. وعلى مستوى الإدارة..، فلنلاحظ أن دولة كالولاياتالمتحدة لا تملك شيئا أهم من القانون والإدارة. تتميز العملية الإدارية بالتفصيلات الكثيرة وتترتب على ذلك قوانين متشعبة في تناول عناصر الفرض في القاعدة القانونية. في الوقت الذي تبدو فيه الأنظمة السعودية فضفاضة وأقل عمقا.. مما يجعلها تعمل على مستوى السطح ولا تنزل إلى مستوى التفاصيل. كما لو أن هناك كسلا ذهنيا يحول دون قيام لجان فحص دقيق لهذه الأنظمة وتجذير فروضها وتكييفها وربطها بالواقع العملي. ولنضرب مثالا بسيطا لعملية إعانات القصر في الولاياتالمتحدة.. حيث يقوم (أ) وهو والد (ب) القاصر بطلب بدل جليسة أطفال تحصل على عشرة دولارات في الساعة. يتم حساب هذا البدل كالآتي: يبدأ عمل الأب الحاضن الساعة التاسعة وينتهي الساعة الرابعة ولديه ساعة في المواصلات فتكون القيمة الإجمالية ثمان ساعات يخصم منها ثمان ساعات لأيام العطل الرسمية. ويخصم منها أيام حضانة الأم المؤقتة. ويخصم منها ساعات المدرسة أو الحضانة.. وهكذا تستمر حالات الخصم لكل ما يمكن لنا أو لا يمكن لنا تخيله. وعلى هذا المستوى تتم عملية محاسبة الإدارات الحكومية بالتفصيل الممل وتقارير الكفاية الوظيفية، والرقابة المحاسبية. وبناء الهيكل الإداري لتجنب الترهلات فيه، بالإضافة إلى تمكين منظمات المجتمع المدني من القيام بدورها الرقابي. يعمل الإعلام كسلطة رابعة على الكشف عن الفساد.. وتمنحه القوانين الأمريكية أكبر حرية يمكن تصورها. ففي ظل الغياب الإعلامي لا يمكن للأخير أن يؤدي دوره وتختفي الرقابة الشعبية، التي هي الضامن الأول للضغط على الجهات المسئولة فلا تتجاوز حدودها القانونية والإدارية. من خلال الإعلام يكون الدور الشعبي فعالا، بل ويحدث ذلك الارتباط النفسي بين المواطن والمال العام فيعمل على صيانته وحفظه والحيلولة دون تدميره. ونقف أخيرا على البناء الثقافي بالمعنى الواسع لهذه الكلمة؛ حيث يتم نشر ثقافة احترام القانون واحترام حقوق الآخر، والإيمان المطلق بضرورة احترام الفرد لدور القانون في حماية الحقوق وتنظيم سبيل الاستمتاع بها. بدءا من احترام نظافة الشارع مرورا باحترام إشارات المرور وانتهاء باحترام الأنظمة ككل. وهذا يحتاج منا إلى بناء ثقافي شامل يبدا بالطفل لترسيخ هذه القيم التي هي ليست بعيدة عن ثقافتنا الإسلامية بل منبثقة عنها.