الأزمة الماليَّة العالميَّة التي بدأت قبل ستة أعوام لا يبدو أن آثارها انتهت، وإذا كانت الدول العظمى استطاعت التصدي لها واحترامها داخل منظومتها الاقتصاديَّة، فإنَّ الدول الأخرى التي تضرَّرت من الأزمة ما زالت تصارع لإيقاف النزيف الاقتصادي فيها. ولعلّ أبرز الدول التي طغت أزمتها على المشهد الدولي بدايات الأزمة هي اليونان، وبالرغم من حجم اقتصادها المحدود قياسًا بالدول الكبرى إلا أنها هدَّدت الاستقرار الاقتصادي الدولي بسبب عضويتها باتحاد أوروبا النقدي «منطقة اليورو»، حيث ضمن مئات المليارات مخطط تحفيز لإنقاذ اليونان التي وصلت آثار أزمتها إلى حدِّ وضع منطقة اليورو أمام احتمال التفكك وطرحت وقتها سيناريوهات عدَّة لاحتمال إخراج اليونان من منطقة اليورو، لكنها استبعدت لأنّها كانت مرعبة ولن تفضي إلى حلٍّ جيّدٍ لاعتبارات عديدة ومعروفة. لكن ما يجري بأوكرانيا حاليًّا، لا يقل بآثاره السلبية الكبيرة على الاقتصاد العالمي من أزمة اليونان إذا لم يتم احتواؤها بتفاهمات سياسيَّة. فأوكرانيا بدأت أزمتها الاقتصاديَّة منذ العام 2008 وهي السنة التي بدأت فيها الأزمة العالميَّة، مما يعني أن ما وصلت إليه الأوضاع الاقتصاديَّة والسياسيَّة فيها هو من نتائج الأزمة العالميَّة، التي أوصلت أوكرانيا إلى حافة الإفلاس، بالرغم من بعض الدعم الذي حصلت عليه من البنك الدولي وروسيا والاتحاد الأوروبي، لكنه يبقى ضئيلاً قياسًا بحجم مشكلاتها الاقتصاديَّة. والمفارقة أن هذه الدَّولة ليست بالفقيرة، فإمكاناتها الاقتصاديَّة هائلة، وكانت ثاني جمهوريات الاتحاد السوفييتي بكلِّ الجوانب الاقتصاديَّة والعسكرية، فهي دولة غنية زراعيًّا وثامن دولة من حيث إنتاج الحديد، بالإضافة لتقدمها الفضائي والتقني، لكن ما شابها من تقلُّبات بعد استقلالها عن الاتحاد السوفييتي عام 1991 أدَّى لاستشراء الفساد مع تحوّلها من اقتصاد مخطط إلى اقتصاد السوق، وما تبعه من تضخم جامع بالإضافة إلى تراجعٍ حادٍّ بالنمو الاقتصادي في السنوات الخمس الماضية بنسبة فاقت 20 بالمئة.مما وجّه أنظارها نحو الشراكة مع أوروبا لدعمها اقتصاديًّا، على أمل ضخ استثمارات كبيرة فيها، ولكن ارتباطها بروسيا أثر على تطوّر تلك المحادثات التي لو وقعت ستجبر أوكرانيا على تغييرات كبيرة بأنظمتها السياسيَّة والاجتماعيَّة، الأمر الذي سيقوض نفوذ روسيا بها، بل ويضعها تحت ضغط داخلي. فروسيا الدَّوْلة العظمى عسكريًّا وذات المقعد الدائم بمجلس الأمن مازال اقتصادها يعتمد على تصدير النفط والغاز بنسبة تصل إلى 70 بالمئة من إيراداتها دون تنوع اقتصادي مهم. وبما أنها دولة كبيرة مساحيًّا وسكانيًّا، فإنَّ تأثير أيّ خلل يقلِّل من تدفق صادراتها من الطاقة إلى أكبر سوق مستهلك وهو أوروبا الغربية سيكون له أثرٌ بالغٌ على الداخل الروسي خصوصًا أن جزءًا كبيرًا من خطوط صادراتها يمر عبر أوكرانيا، مما يعني أن تفاعلات الأزمة الحالية وإن كان ظاهرها سياسيًّا لكن جوهرها اقتصاديٌّ يتمثَّل بصراع مصالح على أوكرانيا بين الغرب الأوروبي مدعومًا بأمريكا وعلى الطرف الآخر روسيا الاتحادية. فأوكرانيا تمثِّل لأوروبا قوة إضافية مهمة بسبب الثروات الطبيعيَّة وأراضيها الخصبة زراعيًّا إلى درجة أن هتلر كان ينقل تربتها الخصبة لألمانيا لتحسين الإنتاج الزراعي بألمانيا، وكذلك تُعدُّ ثاني أكبر جيش بأوروبا بالإضافة لموقعها الجغرافي المميز وهي تحمل الأَهمِّيّة نفسها لروسيا لأنّها كما تسمى حديقتها الخلفية. إن الأزمة الأوكرانية وفق كل المعطيات السابقة وغير المعلومة كحجم وقيمة لها تأثيرٌ سلبيٌّ على الاقتصاد العالمي، لأنّها مختلطة بأزمة سياسيَّة وتحرّكات عسكرية روسية مما يجعل تطوّر أحداثها سلبيًّا له تداعيات دوليَّة كبيرة قد تضع الحروب كأحد السيناريوهات المحتملة. مما سيرفع من أسعار الطاقة فيما لو نقصت الإمدادات مما سيؤثِّر سلبًا على النمو الاقتصادي العالمي الهش حاليًّا وقد يعيده لمراحل بداية الأزمة الماليَّة العالميَّة قبل ستة أعوام، بل إن بعض المسئولين الأوروبيين وصفوا تطوّرات الحدث الأوكراني بأنها أعادت أوروبا إلى الحالة التي كانت عليها قبل أكثر من خمسين عامًا. مما لا شكَّ فيه أن الاقتصاد العالمي يواجه أخطر تداعيات الأزمة الماليَّة العالميَّة في أحداث أوكرانيا، وإذا كان العالم متفقًا على عدم خوض الحروب الكبرى مجدَّدًا بسبب التجارب المريرة بالحربيين العالميين في القرن الماضي، لكنه أيْضًا يقف بمواجهة أزمة خطيرة لها مواصفات الأزمات نفسها التي أشعلت تلك الحربين المدمرتين. فهل تغيّر العالم بما يكفي لمنع نشوب حروب جديدة ذات آثار مدمرة بمختلف جوانبها خصوصًا الاقتصاديَّة أم أن التاريخ سيعيد نفسه من جديد؟