لا شكَّ أن الاختلاف سنَّة ربانية، لا خلاص منها؛ فالناس يختلفون في ألوانهم، وأشكالهم، وميولهم، وعقولهم وفي كلِّ شيء. قال الله تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَألوانكُمْ إنّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ»[الروم: 22]، وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شعوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا»[الحجرات: 13]، فلم يقل سبحانه: لتحاربوا؛ وإنما قال: لتعارفوا إن قيام الكون وبقاء الحياة لا يكون بتحقيق رغبة فئة خاصة بعينها من الناس، وإلا لكانت هذه الفئة تطمع في إبادة الآخرين، ومحوهم من الوجود، وكانت كل أمة تريد نقيض ما تريده الأمة الأخرى. من طبيعة البشر الاختلاف، بل إن المرء يختلف حتَّى مع نفسه، فجسده يتفاوت: له عين، وأذن، ويد، ورِجل، والله - سبحانه وتعالى- يقول: «أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ* وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ» [البلد8 ، 9 ، 10]، وهو أيْضًا اليوم على حال، وغدًا على حال أخرى، كما قال ربنا تبارك وتعالى: «لَتَرْكَبُنَّ طبقًا عَنْ طَبَقٍ»[الانشقاق: 19] يعني: حالاً بعد حال؛ فهناك الطفولة والشباب، والكهولة والشيخوخة، والهرم، وهناك الغنى، والفقر، وهناك الصحة، والمرض، وهناك العلم، والجهل، وهناك أحوال وأطوار يمر بها الإِنسان. حتَّى كان النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: « إِنِّى وَاللَّهِ إن شاء اللَّهُ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خيرًا مِنْهَا، إلا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِى، وَأَتَيْتُ الذي هُوَ خَيْرٌ» [أخرجه البخاري، ومسلم واللفظ لمسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضى الله عنه]؛ فهو يَرَى في بعض الأوقات أن هذا خيرٌ حتَّى يقسم عليه-، ثمَّ يبدو له خلافه؛ فيكفّر عن يمينه، ويأتي الذي ظهر له أخيرًا أنّه خيرٌ، وقد يَرَى المرء الرأي صباحًا، ثمَّ ينقضه في المساء، ومن بديع الحكمة الربانية أن الله -تبارك وتعالى- منح الناس حق الاختيار، كما قال سبحانه: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر» [الكهف: 29] وقال سبحانه: «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ»، وحمَّله مسؤولية هذا الاختيار: إما جنة عرضها السماوات والأرض، أو نار تلظى والعياذ بالله منها. وقد اختلف الأنبياء عليهم الصلاة والسَّلام، كما اختلف موسى وهارون، وموسى والخضر، وداود وسليمان، واختلف الصحابة رضي الله عنهم، كما اختلف أبو بكر وعمر بحضرة النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، واختلف ابن عباس ومعاوية، واختلف عثمان وعلي، واختلف الأئمة من بعدهم كالأربعة وغيرهم. وهذا الخلاف في أصله رحمة واسعة، وإنما يكون الحرج والضيق إذا داخل الخلاف هوى أو حظ نفس، أو تعامل معه بطريقة غير شرعية؛ فتحول إلى نوع من الفرقة والتنازع والشتات بين المؤمنين. قال فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- عند تفسيره لقوله تعالى: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ» [البقرة: 176] ومنها: إن الاختلاف ليس رحمة، بل إنّه شقاق، وبلاء؛ وبه نعرف أن ما يُروى عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنّه قال: «اختلاف أمتي رحمة» لا صحة له؛ وليس الاختلاف برحمة؛ بل قال الله سبحانه وتعالى: «وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ» هود 118 - 119؛ أيّ فإنّهم ليسوا مختلفين. نعم، الاختلاف رحمة؛ بمعنى: إن من خالف الحق لاجتهاد فإنّه مرحومٌ بعفو الله عنه؛ فالمجتهد من هذه الأمة إن أصاب فله أجران؛ وإن أخطأ فله أجر واحد؛ والخطأ معفو عنه. وأما أن يُقال هكذا على الإطلاق: «إن الاختلاف رحمة» فهذا مقتضاه أن نسعى إلى الاختلاف؛ لأنّه هو سبب الرحمة على مقتضى زعم هذا المروي! فالصواب أن الاختلاف شر. ا. ه. ولننظر لسلفنا الصالح وكيفية تعاملهم مع الاختلاف والتزامهم بالآداب الشرعية والسنن المرعية، وضبط النفس، والتحلي بالحكمة. 1. عندما أتم عثمان بن عفان رضي الله عنه الصلاة الرباعية في موسم الحج بمنى متأولاً، أتم معه ابن مسعود، فقيل له: كيف تصلي أربعًا وقد صليتَ مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأبي بكر وعمر ركعتين؟! قال: «الخلاف شر». الذي حمل ابن مسعود على إتمام الصلاة الرباعية بمنى مع عثمان خوف الاختلاف الذي لا يأتي بخير، وإن كان المخالف محقًا، طالما أن عثمان فعل ذلك متأولاً، وهو إمام راشد يُقتدى بفعله فقوله: (الخلاف شر) هذه كلمة تكتب بماء الذهب لعظمها وأهمية تطبيقها. 2. ثناء أمير المؤمنين علي رضي الله عنه على الذين امتنعوا عن القتال معه ومع غيره: سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. 3. عندما سُئل رضي الله عنه عن الخوارج الذين شقوا عصا الطاعةعليه، وأضعفوا عسكره، وكفروه، وقاتلوه، وفي نهاية المطاف قتلوه ظلمًا وعدوانًا: هل هم كفار؟ قال: لا، بل من الكفر فروا. فقالوا له: هل هم منافقون؟ قال: لا، المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء كما شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: «ينكر أحدكم صلاته إلا صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم» الحديث. فقالوا: ما هم؟ قال: إخواننا بالأمس بغوا علينا اليوم. قال كل ذلك على الرغم من أنّه يملك دليل كفرهم من السنّة المطهرة، لكنه يعلم أن الخلاف شر، رضي الله عنه وأرضاه.