كثير من مفاهيم الترف التي وفدت إلينا مع البترول، جعلت (ثقافة العمل) في مجتمعاتنا تراوح بين ثلاثة محاور: (العيب) و (الترفع)، و(الحرام)، وغني عن القول أن التنمية هي أولاً وقبل أي شيء تبدأ (بالعمل)، وغياب ثقافة العمل والعطاء والإنتاج يعني حكماً غياب التنمية، وغيابها يعني أننا سنبقى في ذيل الدول متخلفين، نعتمد على الآخرين في كل شيء. ولو أجلت بصرك في ما حولك من منتجات العصر لوجدت أغلبها إذا لم يكن كلها مستوردة، ابتداء من مولدات الكهرباء التي تنير ظلمة صحرائنا، فوسائل المواصلات، والأطعمة وعلى رأسها (الرز)، والأدوية والألبسة بما فيها (الشمغ) و(العقل) والنعال (الزبيرية)، وانتهاء بالشعير الذي نُعَلّف به (بعارينا) بعد تقاعدها! أما السبب لهذا الخلل التنموي فيعود في تقديري إلى غياب ثقافة العمل، وغيابها (معضلة) لا بد من التفكير جدياً في حلها، وتلمس الأسباب والوسائل التي من شأنها إعادة توطينها ثانية مثلما كانت على الأقل في بلادنا قبل الطفرة الاقتصادية التي أفسدت كثيراً من قيمنا السابقة، وعلى رأسها قيمة العمل والإنتاج والاعتماد على النفس. دعونا نقرأ هذا الخبر بتمعّن: (معظم المدارس اليابانية لا يوجد فيها عمال نظافة بل يقوم الطلاب بتنظيف مدارسهم كجزء من مهامهم اليومية لإيمانهم أن العمل مقرون بالثقافة). فلماذا لا نعتمد هذه السياسة كوسيلة مُثلى لتعويد الإنسان وهو في مرحلة التكوين التربوي على العمل والاعتماد على النفس، وفي الوقت نفسه تكريس ثقافة النظافة، والاهتمام بالبيئة والحفاظ عليها؟ برنامج (خواطر) الذي تعرضه قناة ال mbc في رمضان كان قد سلط الضوء على هذه التجربة اليابانية الرائدة، وظهر في حلقة من حلقاتها سمو الأمير فيصل بن عبدالله بن محمد وزير التربية والتعليم وهو يشارك طلاب مدرسة ابتدائية في جدة تنظيف فصول مدرستهم، غير أن هذه التجربة الرائدة بقيت كسابقة يتيمة، و(تلفزيونية) فقط، ولم ترتق - حسب علمي - إلى اعتمادها من قبل وزارة التربية والتعليم كأسلوب إجباري يُفرض على التلاميذ تنفيذه بصفة يومية في مدارسهم. ربما أنها في البداية ستواجه بعض العراقيل، والاعتراضات، إلا أنها مع الزمن والإصرار والمتابعة والمثابرة ستصبح نشاطاً لاصفياً معتاداً؛ وفي رأيي أننا إذا استطعنا تعميم هذه التجربة فسوف تسهم مساهمة جوهرية في تعويد النشء على العمل والاعتماد على النفس منذ الصغر. غياب ثقافة العمل، واكتناف (العيب) ببعض المهن، و(الترفع) عن بعض المهن الأخرى، ناهيك عن (الحرام) الذي يكتنف عمل المرأة في الأعمال التي يُسمونها (مختلطة)، تكاتفت كعوائق لتشوه بيئة العمل في المملكة، وانعكست تأثيراتها السلبية على التنمية انعكاسات خطيرة، ستتفاقم إذا لم نواجهها بجرأة ونتلمس حلولاً لها. تقول الأرقام: (90% من السعوديين يعملون في القطاع الحكومي، في حين تبلغ نسبة العمالة الوافدة 27% من مجموع السكان، أو ما يعادل سبعة ملايين وافد أغلبهم يعملون في القطاع الخاص، وتبلغ التحويلات المالية لهذه العمالة (14) مليار دولار). كما جاء في دراسة أكاديمية صدرت عن جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: (أن 70 % من أفراد الأسرة السعودية غير منتجين ويعتمدون على رب الأسرة في توفير احتياجاتهم كافة، وتقول الدراسة أيضاً أن الأسرة السعودية لا تُربي أفرادها على ثقافة العمل الصحيحة ليكونوا أفرادا منتجين يحملون النظرة الإيجابية للعمل منذ الصغر ولمختلف الأعمال دون تمييز).. (المصدر مجلة التنمية الإدارية، الصادرة عن معهد الإدارة). وهنا لا بد من التنويه بالجهود المتميزة التي تُساهم فيها وزارة العمل، ابتداء بالوزير الوطني اللامع المهندس عادل فقيه، وانتهاء بجميع من يعملون معه، والتي تتحدث الأرقام عن انجازاتهم الحقيقية على أرض الواقع رغم العقبات التي تعترضهم؛ إلا أن هذه الجهود رغم أهميتها إذا لم تُساهم فيها (وزارة التربية والتعليم) مساهمة تأسيسية، بترسيخ مفهوم العمل كقيمة تربوية منذ الصغر، فستظل هذه الجهود أقل من أن تُحقق طموحاتنا التنموية. إلى اللقاء.