تتهادى الخطى مخلفة وراءها عمراً مديداً ليأخذك حنين الماضي بتنوُّع ذكرياته، لتجد نفسك بين أحضان الحاضر المليء بالصخب وضجيج أحلام طفولةٍ تناثر بناؤها لتبقى حبيسة جدران بيوت قرية «البارك»، بطينها الذي تبلّلت زواياه بعبق تاريخٍ تأصلت جذوره في قلب ذاكرة أبناء القرية. ورغم تعاقب الأيام والسنين على هذه القرية التي تبعد عن مدينة الباحة مسافة 10 كيلو مترات، إلاّ أنّ أهلها ظلّوا يردّدون في المجالس ما يدور في خلدهم من صور مختزلة عن روعة وجمال العيش في تلك الحقبة من الزمن بين أروقة هذه القرية, وكيف تملأ البساطة مكان وزمان قاطنيها. ويستذكر اليوم ابن القرية عبد الرحمن بن عطية البالغ من العمر خمسين عاماً، متجولاً بخطاه التي كانت بالأمس تلامس ثرى أروقة وعتبات تلك المنازل القديمة، واصفاً ما كانت عليه الحياة حينما ترعرع وتربى بين أحضان أخشابها وطينها وحجارتها , والشوق يملأ حنايا قلبه لسماع «المهراس» وهو يجلجل وكأنه يستنشق رائحة القهوة في جنبات المنزل الضيق كما نراه نحن الآن ، بيْد أنّ رحابة النفوس وظروف الحياة جمعت الأسرة والأسرتين والثلاث مع أمتعتهم وأنعامهم ولم تضيق بها مساحة المكان ، لتزداد مع حميمية أهلها في وقت الربيع بهاءً وتلتحف الضباب شتاءً. وأشار ابن عطية إلى أن حياة ابن القرية الآن تفتقر إلى الكثير من الراحة التي كان يعيشها بين أحضان طبيعتها في الماضي، بسبب دخول أدوات العصر الحديثة التي عمت طبيعة الحياة وميكنتها، والهجرة إلى المدن سعيًا لطلب الرزق. ويقلب المعلم المتقاعد صالح بن علي الزهراني 56 عاماً، ذكرياته التي عاشها في القرية، حينما كانت شمس النهار تشع في بيت الحجارة متسللة من بين أشجار العرعر المرصعة بها منازل قرية البارك, مبيناً أنه كان جل تفكيرهم آنذاك ما تدخره أرضهم من محصول، وما سيكون عليه حصادها «الصِرام»، يمشي وأمامه قطيع ضأنه في يوم إجازته يجوب أودية القرية متسلقاً أشجارها ليحميها بما يسمّى ب»المراجم» من الطيور، باحثًا عما تنتجه تلك الأشجار من خيرات وفيرة خلال موسم ذلك الفصل من السنة. ويضيف الزهراني ابن القرية عن مدرسته سابقاً، قائلاً : لقد كانت أيام دراستنا في بيتٍ تقليدي متواضع ، لا يكاد عددنا من أبناء القرية والقرى المجاورة يتجاوز 40 طالباً يأتون على دوابهم في مساحةٍ ضيقة تآلفت بها قلوبهم حينما يردّدون تحية العَلَم الصباحية «تحيا المملكة العربية السودية» ثلاث مرات , لافتاً النظر بعد أخذ نفسٍ عميق إلى قيام المدرسة برحلة إلى أحد الأودية القريبة من المدرسة بواقع ريال واحد على الطالب .. من هنا تأتي أمنيات من وصل به العمر عتيًا وعندما تجوب به ذكرياته التي لا تنتهي حكايات أيامها كفصول أيام سنته المليئة بأحداثٍ كانت تتجدد بحياةٍ ملئت بالأمل الذي يحدوه الجمال والروعة وعبق حياة أصيلة، أن يعود به ذاك الزمان أدراجه، وابن القرية يدوي صوته بداخله ليعود به الزمان خطاه إلى الوراء.