اللي معه مالٍ يسمى كحيلان واللي اضعيّف لو قرا بالبخاري! - عباد الخشقي هذه هي القاعدة الأزلية الثابتة الأكثر تطبيقاً في المجتمع في مسألة تقييم الناس وتقديمهم على منصة الوجاهة, نعم صاحب المال هو المقدم وهو المُجَلُّ المبجَّل وهو الذي تخضع له رقاب التوقير, وتسجد له جباه الإجلال, وهو المغفورة خطاياه, المبررة أخطاؤه, وربما تحولت سيئاته عند البعض حسنات. وبالمال تشترى الذمم والولاءات, وبه تُستل سخائم النفوس, وتُستلان قاسية القلوب, وربما حُلّلت به المحرمات, وسوّغت به المحظورات, قال أحمد شوقي رحمه الله (ت 1351ه): المالُ حلل كُلَّ غَيرِ مُحَلَّلِ حتّى زواجَ الشيبِ بِالأبكارِ سحر القُلوبَ فَرُبَّ أُمٍّ قَلبُها من سحرِه حجرٌ من الأحجارِ وبالمال يُدجّن الأعداء والمخالفون, وإذا كانت السلطة هي (العصا) والترهيب فإن المال هو (الجزرة) والترغيب. وإذا تكلم صاحب المال اشرأبت له الأعناق, وصاخت له الأسماع, فهو البليغ المفوّه, والخطيب المؤثر, وإذا سكت ففي سكوته كل الصواب والحكمة. أما إذا كان حصِرًا في نطقه, عيِيًا في مقاله, فإن ماله يتكلم عنه بأبلغ الكلام, قال أبوالفتح البستي رحمه الله (ت 400ه): (سحبان) من غير مال (باقلٌ) حصِرٌ و(باقلٌ) في ثراء المال (سحبان) وسحبان هو سحبان بن وائل من باهلة (ت 54ه), خطيب العرب الشهير, وبه يُضرب المثل فيقال (أخطب من سحبان) , أما باقل فرجل متخلف عقلياً, كان يُضرب به المثل في العي وهو احتباس الكلام وصعوبة النطق, فيقال (أعيا من باقل). فكثرة المال - كما يقول البُستي - تجعل من باقل سحبان, وقلَّته تجعل من سحبان باقلاً! وبالجملة فإن صاحب المال عند الناس هو كما لخصه عباد الخشقي رحمه الله (ت في نهاية القرن الثالث عشر الهجري) في بيتنا الذي نسيح فيه هنا, فقال: (اللي معه مال يسمى كحيلان)! و(كحيلان) مفردة تختزل كل صفات التميز والجمال من: فروسية, ونباهة, وأخلاق, وملاحة.. وغير ذلك, وهي الصفات التي يتنافس فيها معظم البشر في الحياة قديماً وحديثاً. ويقال إن الكلمة في أصلها كانت اسماً لحصان أصيل (زعموا) أنه أحد خمسة جياد تعد أصول الخيل العربية الأصيلة, وهي (الصقلاوية, وشويمة, وأم عرقوب, والعبيّة, وكحيلان أو الكحيلة), ثم أصبحت الكلمة تقال لكل مقدم محبوب. وفي المقابل فإن العالم و المثقف والحكيم وصاحب الرأي المقدم في اختصاصه.. وغير هؤلاء ممن يستحقون التقدير, لا ينالون من احترام الناس كالذي يناله صاحب المال. وهم كما قال عباد الخشقي هنا: (واللي اضعيّف لو قرا بالبخاري) ويروى: (واللي فقير..), والضعيّف في لهجة أهل نجد تطلق على الفقير المعدِم, والقراءة في البخاري في الأزمنة المتقدمة تعني الغاية في طلب العلم وتحصيله, كما تعبر عن علو الثقافة. فالمثقف العالم بلا مال لا يساوي شيئاً عند الأكثرية, لأن المال هو المتحكم في ميزان التفاضل في واقع الحياة, بل إن قلة المال ذنب يعاقب عليه صاحبه أحياناً بالجفاء وإن لم يرتكبه, قال الصحابي الجليل قيس بن عاصم المنقري رضي الله عنه (ت 33ه): وأوّلُ من يجفو الفقيرَ لفقرِه بنوه ولم يَرْضوه في فقرِهِ أبا كأنَّ فقيرَ القومِ في الناسِ مُذنِبٌ وإنْ لم يكنْ مِنْ قبل ذلك أذنبا وقبل عباد الخشقي قال في هذا المعنى شاعر نجد الكبير حميدان الشويعر رحمه الله (ت 1188ه تقريباً): المال يرفع من ذراريه خانسه والقل يهفي ما رفع من مغارسه ألا يا ولدي صفر الدنانير عندنا تنطق شفاه في لياليك خارسه فالمال يرفع الوضيع, ويضع الرفيع, ويُنطق الأخرس! وقال الشاعر الكويتي محمد الفوزان رحمه الله (ت 1314ه): رجل بلا مال فلا هوب رجال لو هو على الجرة طويل ذراعه أي لا يراه الناس شيئاً ولو كان شهماً نبيلاً. ومثله إبراهيم المحمد القاضي رحمه الله (ت 1346ه) حين قال: من قلّ ماله صار ماهوب رجال لو هو صميم من خيار الرجاجيل يهون قدره بالمجالس وإلى قال يِسْفَه ولا يوحى ولو صاح بالحيل وإن كان في كفه سحوت من المال يحشم ولو هو من عفون الزماميل فالمال هو الذي يجلب الوجاهة والوقار أو الذل والاحتقار, وهو الذي يجلب لصاحبه الأتباع والحاشية, ويرفعه إلى مقامات الأسياد بعد أن كان معدودًا في الرعاع وربما في الماشية, فكأن التقدير للمال لا للرجال, والتقدير يكون على حسب كثرته, والعكس يكون على قلته وعدم وفرته, قال سليمان بن شريم في قصيدة يوصي بها ابنه: إن كثر مالك صدقوا لك وطاعوك وإن قل ما بيديك شانت حلاياك وقديماً قال الشاعر العربي العذب العباس بن الأحنف رحمه الله (ت 192ه): يمشي الفقيرُ وكل شيء ضده والناسُ تُغلق دونه أبوابَها وتراه مبغوضاً وليس بمذنبٍ ويرى العداوةَ لا يرى أسبابَها حتَّى الكلابُ إذا رأتْ ذا ثروةٍ خضعتْ لديه وحرَّكت أذنابها وإذا رأتْ يوماً فقيراً عابراً نبحتْ عليه وكشَّرَتْ أنيابها فالفقير المسكين حتى الكلاب تنبح عليه, وتكشر أنيابها وتعلن عداءها له. وقبله قال الشاعر الجاهلي عروة بن الورد (ت 30 ق.ه): المال فيه مهابة وتَجِلَّة والفقرُ فِيه مذلة ٌ وفُضوح هذا ما تعارف عليه الناس في الماضي والحاضر, وهذا ما قرَّره الشعراء الحكماء النبطيون والفصحاء, فمما يُنسب للإمام الشافعي رحمه الله (ت 179ه) قوله في هذا المعنى: أَلم تريا أَنّي مُقِيمٌ بِبلدةٍ مراتبُ أَهل الفضلِ فيها مجاهلُ فكاملهم من قلة المالِ ناقصٌ وناقصهم من كثرةِ المالِ كاملُ فالنقص والكمال صفتان تقاسان بميزان المال لا بمقياس الفضل والعلم, كما يقول رحمه الله. ولخص أبوالعيناء رحمه الله (ت 283ه) المسألة برمتها فقال: من كانَ يملكُ درهمينِ تعلمتْ شفتاه أنواعَ الكلامِ فقالا وَتقَدَّمَ الفصحاءَ فاستمعوا له ورأيتَه بين الورى مُخْتالا لولا دراهمُهُ التي في كيسِهِ لرأيته شَرَّ البريةِ حالا إِن الغنيَّ إِذا تكلمَ كاذباً قالوا صدقْتَ وما نطقْتَ مُحالا وإِذا الفقيرُ أصابَ قالوا لم يُصِبْ وكذبْتَ يا هذا وقُلْتَ ضلالا إِن الدراهمَ في المواطنِ كُلِّها تكسو الرجالَ مَهابةً وجلالا فهي اللسانُ لمن أرادَ فصاحةً وهي السلاحُ لمن أرادَ قِتالا [email protected] تويتر alkadi61@