كان الأمر أشبه بقوى غامضة تأتي من الجن، فالكهرباء حين نشأة الدَّوْلة السعوديَّة، كانت شيئًا نائيًا عن الخيال، ومحل توجس، والغالبية الساحقة تجهل عنها كل شيء، بالرغم من أن الأمر لم يكن بعيدًا من النَّاحية الزمنيّة، حيث تعود سنواته إلى نحو مائة عام لا غير! ولأن الأشياء تحدث بحكم حراك المدنية الزاحفة وقتذاك، جاءت البدايات لدخول الكهرباء خجولة ومتواضعة، فلم يكن يوجد في المملكة مولدات خاصة بتوليد الطَّاقة الكهربائيَّة، وإنما كانت هناك محاولات لتوليد الكهرباء من بعض مصانع الثلج التي كان بعضها يستخدم لغرضين هما: صنع الثلج وتوليد الكهرباء لإنارة المحلات القريبة منها، كما قامت بعض مطاحن الحبوب بتوليد الكهرباء أيْضًا، وكل ذلك كان بحكم الحاجة للإضاءة دون غيرها من مقتضيات الكهرباء، وبحكم الحاجة المحدودة لتبريد الماء.. التي كانت ضرورية بحكم الحرارة العالية وعدم وجود ما يلطف تلك الحرارة من أجهزة التبريد والتكييف. وعلى أيّ حال، كانت هناك مسافة زمنية قدرها 40 عامًا تقريبًا بين بداية دخول الكهرباء إلى المملكة وبين إنشاء أول محطة لتوليد الطَّاقة الكهربائيَّة في العالم، وقد كانت في الولاياتالمتحدة الأمريكيَّة على يد المخترع توماس أديسون، الذي أنْشأ محطة صغيرة لتوليد الطَّاقة الكهربائيَّة في نيويورك بدأت الإنتاج في 21 - 10 - 1299ه (4 - 9 - 1889م) وقامت بإيصال خدماتها إلى 85 مشتركًا يملكون 400 مصباح كهربائي. لكن البداية الحقيقية لتوليد الطَّاقة الكهربائيَّة في المملكة من مولدات خاصة لهذا الغرض جاءت مع بداية الأربعينيات الهجرية، وكانت في الحرمين الشريفين في البداية، وفي أواخر هذه المرحلة قامت الحكومة باستيراد مولدات كهربائيَّة لاستخدامها في إنارة قصر الملك في مدينة الرياض وقصور الأمراء وبعض مباني كبار المُوظَّفين، كما شمل برنامج التغْذية الكهربائيَّة تزويد المباني الحكوميَّة والمساجد بالطَّاقة الكهربائيَّة، وفي عام 1352ه أصدرت الدَّوْلة نظام منح امتياز صناعة توليد الطَّاقة الكهربائيَّة الذي يمثِّل البداية الحقيقية لعملية تنظيم الاستثمار في قطاع الكهرباء وفق أسس صحيحة وسليمة ومشجِّعة للقطاع الخاص على الاستثمار في هذا المجال. امتيازات باكرة شهدت المملكة النقلة الباكرة في منح الامتيازات لصناعة توليد الكهرباء بدءًا من عام 1354، حيث منحت أول امتياز لمحمد عبد الله علي رضا وإبراهيم شاكر وكان الامتياز لمشروع إنارة جدة بالكهرباء، ثمَّ منح إبراهيم الجفالي وإخوانه امتياز مشروع إنارة الطائف وضواحيها بالكهرباء في عام 1365ه، ثمَّ الموافقة على قيام الشيخ عبد العزيز الخريجي بتسجيل شركة مساهمة تُسمَّى الشركة السعوديَّة لتوليد الكهرباء يكون مقرها المدينةالمنورة عام 1366ه، ثمَّ تتابع منح الامتيازات في عدد من مدن المملكة ومناطقها، وخلال الثمانينيات الهجرية توسعت الدَّوْلة في تقديم الدَّعم والتشجيع لقطاع الكهرباء، الذي تمثِّل في تقديم القروض والإعانات والتسهيلات في الحصول على الأرض والوقود لمحطات توليد الطَّاقة الكهربائيَّة، كما قامت الدَّوْلة بمنح تسهيلات وامتيازات للقطاع الخاص، أدَّت إلى دعم حركة صناعة توليد الطَّاقة الكهربائيَّة في المملكة، وهذا مما أدَّى إلى تحسن وضع الكهرباء في جميع أنحاء المملكة، فأنشئت شركات كهربائيَّة في كثير من المدن والقرى السعوديَّة، كما أن الشركات التي كانت قائمة قد استفادت منه من خلال توسيع أعمالها، فقد كان هناك استهلاكٌ متزايدٌ للطَّاقة الكهربائيَّة، وهذا ما دفع الشركات إلى زيادة مولداتها الكهربائيَّة، وتحسين أدائها، حتَّى تفي بمتطلبات المشتركين من الطَّاقة الكهربائيَّة، كما قامت وزارة التجارة والصناعة بإعداد خطة لتزويد المدن والمناطق الريفيَّة الرئيسة بالكهرباء، ويقوم بتنفيذ هذه الخطة القطاع الخاص بمساعدة الحكومة التي أنشأت عمدت إلى تقديم قروض طويلة الأجل ودون فائدة للشركات الكهربائيَّة في المملكة، وقد انعكس ذلك على وضع صناعة توليد الطَّاقة الكهربائيَّة في المملكة في عام 1390ه، الذي يوافق السنة الأولى من بداية تطبيق خطة التنمية الأولى. مشكلة الانقطاعات الكهربائيَّة مما أقض مضاجع السكان في فترات سابقة، مشكلة القطوعات الكهربائيَّة بما تسببه من إرباك للحياة، وخسائر متنوّعة، وقد اهتمت خطة التنمية الأولى بالتَغَلُّب على مشكلات انقطاع التيار الكهربائي والتغيِّرات في الجهد، التي تعاني منها جميع الشركات الكهربائيَّة العاملة في المملكة مما يمثِّل خسارة مباشرة أو غير مباشرة للاقتصاد الوطني، كما سعت الحكومة أيضًا إلى تنظيم بعض النواحي الفنيَّة لعملية إنتاج الكهرباء وتوزيعها فاهتمت بتوحيد أنظمة الذبذبة والجهد المستخدمة في مناطق المملكة على نظام واحد، وقد أسهم ذلك في تطوّر صناعة الكهرباء، ففي عام 1395ه بلغ إجمالي القدرات الاسمية لمحطات توليد الطَّاقة الكهربائيَّة في المملكة 399ر1 ميجاوات، وبلغت القدرات الفعلية لهذه المحطَّات 173ر1 ميجاوات، ووصل أعلى طلب على الكهرباء في هذه السنة إلى 848 ميجاوات، وبلغ عدد المشتركين المستفيدين من هذه الطَّاقة الكهربائيَّة 531ر351 مشترك. الدمج لتحجيم السلبيات نظرًا لكثرة الشركات الكهربائيَّة وتباين أحجامها واختلاف النظم الإدارية والتشغيلية داخل هذه الشركات وما ترتب على ذلك من آثار سلبية على صناعة الكهرباء، فقد ظهرت خلال تطبيق خطة التنمية الثانية الحاجة إلى دمج هذه الشركات في شركات أكبر ذات قدرة على استيعاب التطوّر السَّريع الذي يحدث خلال هذه الفترة، وقد انعكست هذه الإجراءات على وضع صناعة توليد الطَّاقة الكهربائيَّة في المملكة، فعند موازنة وضع صناعة الكهرباء في المملكة خلال عام 1400ه بما كانت عليه خلال عام 1395ه يتَّضح حجم النمو الكبير الذي حدث لهذه الصناعة. 4 شركات كبيرة وخلال خطة التنمية الثالثة 1400- 1405ه استمرت سياسة دمج الشركات بحيث تَمَّ تجميع معظم مرافق الكهرباء بالمملكة تحت إدارة 4 شركات كبيرة قادرة على التطوير وتأمين متطلبات التنمية من الطَّاقة الكهربائيَّة، وعند موازنة وضع صناعة الكهرباء في نهاية هذه الخطة بوضعها في عام 1400ه يتَّضح أن هذه الصناعة قد حققت نموًّا خلال هذه السنوات الخمس، التي نفذت فيها خطة التنمية الثالثة بلغ 4ر178 في المئة في القدرات الاسمية، و4ر195 في المئة في القدرات الفعلية، و2ر152 في المئة في الطَّاقة المولَّدة، و3ر140 في المئة في الطَّاقة المستهلكة، وبلغت نسبة الزيادة في عدد المشتركين 101 في المئة. اهتمام بالترشيد شهد منتصف عام 1405ه بداية تطبيق خطة التنمية الرابعة التي اهتمت بترشيد استهلاك الطَّاقة الكهربائيَّة، وهو هدف يرد لأول مرة في خطط التنمية، ولتحقيق هذا الهدف أصدرت المؤسسة العامَّة للكهرباء والشركات الكهربائيَّة الأخرى كتيبات إرشاديَّة لتوعية المواطنين بأنواع الأجهزة الكهربائيَّة ذات الاستهلاك الاقتصادي، وحثّهم على شرائها، وبيان الأجهزة ذات الاستهلاك المرتفع للكهرباء مثل المكيفات وحثّهم على عدم الإسراف في استخدامها، وأقيمت ندوات علميَّة لبيان فوائد استخدام العزل الحراري في المباني لمنتجي الطَّاقة الكهربائيَّة ومستهلكيها، وقد انعكس ذلك على وضع صناعة الكهرباء خلال مدة تنفيذ هذه الخطة، فعند تحليل هذه الأرقام التي تُوضِّح وضع صناعة الكهرباء في المملكة خلال عام 1410ه بما كانت عليه في عام 1405ه، يتبيَّن أن صناعة توليد الطَّاقة الكهربائيَّة قد حققت خلال مدة خطة التنمية الرابعة نموًّا بلغ 2ر19 في المئة في قدراتها الاسمية، و5ر16 في المئة في قدراتها الفعلية، و4ر49 في المئة في الأحمال الذروية، و47 في المئة في إنتاجها من الكهرباء، مما مكنها من تلبية احتياجات المشتركين الذين زاد عددهم بنسبة 35 في المئة وزادت مستويات استهلاكهم بنسبة 2ر4 في المئة، وقد انعكست هذه الزيادة في عدد المشتركين ومستويات استهلاكهم على حجم الطَّاقة الكهربائيَّة المستهلكة التي زادت بنسبة 7ر40 في المئة، ويلحظ انخفاض نسب النمو في هذه المتغيِّرات، فقد تلاشت نسب النمو الكبيرة السائدة في السابق، التي هي صفة من صفات المجتمعات النامية، حيث دخلت صناعة الكهرباء في المملكة خلال فترة خطة التنمية الرابعة مرحلة من الاستقرار في استهلاك الطَّاقة الكهربائيَّة. وشهد منتصف عام 1410ه بداية تطبيق خطة التنمية الخامسة التي ركزت على توفير الخدمات الكهربائيَّة بالمستوى الفني الملائم لجميع مراكز النمو السكاني ولمختلف المرافق الاقتصاديَّة، وتنمية نظَّم الكهرباء وتطويرها، وتوفير الخدمات الكهربائيَّة بأقل التكاليف الاقتصاديَّة والبيئية والاجتماعيَّة، وعند تحليل هذه الأرقام التي تُوضِّح وضع صناعة الكهرباء في المملكة خلال عام 1415ه، بما كانت عليه في عام 1410ه يتبيَّن أن صناعة توليد الطَّاقة الكهربائيَّة قد حققت خلال الفترة نموًّا بلغ 7 في المئة في قدرات التوليد الاسمية، و1ر5 في المئة في قدرات التوليد الفعلية. وشهدت الحقبة من منتصف عام 1415ه حتَّى منتصف عام 1420ه حقبة تطبيق خطة التنمية السادسة، وركزت هذه الخطة على توفير الخدمات الكهربائيَّة بالمستوى الفني الملائم لجميع مراكز النمو السكاني ولمختلف المرافق الاقتصاديَّة، والالتزام بمبدأ «تقديم الخدمة الكهربائيَّة بأقل التكاليف» في تنمية وتطوير النظم الكهربائيَّة ومرافقها، وتحقيق التخصيص الكامل لمرافق الكهرباء على المدى المتوسِّط والبعيد، والإسهام في تحقيق الربط الكهربائي مع دول الجوار، وذلك نحو إنشاء شبكة كهربائيَّة موحدة على المستوى الإقليمي. تطورات مهمة في قدرات التوليد تواصلاً للنموِّ في قدرات التوليد مجموع الاسمية المركبة في محطات توليد الطَّاقة الكهربائيَّة ومحطات تحلية المياه المالحة في المملكة، وصلت هذه القدرات في عام 1418ه إلى 28815 ميجاوات، وبلغ مجموع قدراتها الفعلية 24134 ميجاوات، أما عدد المشتركين في المملكة فقد بلغ 3256643 مشترك. الآن، تنتج المملكة أكثر 52.4 ألف ميغاوات، وهو أكثر من ضعف إنتاجها عام 2000 الذي شهد تأسيس الشركة السعوديَّة للكهرباء التي كانت نتاج دمج شركات المناطق، تخدم 12501 مدينة وقرية وهجرة مقارنة، من خلال 6.8 مليون مشترك، بينما زادت أطوال شبكات نقل الطَّاقة الكهربائيَّة عن 52064 كلم دائري مقارنة (وهو ضعف المسافة بين واشنطن وطوكيو) ب 29.166 كلم دائري أيّ أن نسبة الزيادة 78.5 في المئة. وتنفذ البلاد المترامية الأطراف خطة وطنيَّة للربط الكهربائي وصلت نسبتها 98 في المئة، وهي ما يساعدها على تفادي أيّ انقطاعات قد تحدث، حيث تحوّل الطَّاقة من منطقة إلى أخرى بِشَكلٍّ آلي. وتعادل أطوال شبكات التوزيع وتوصيلات الطَّاقة الكهربائيَّة 442275 كيلو متر دائري مرتفعة من 219.076 كيلو متر دائري بنسبة زيادة قدرها 102 في المئة. واقع.. له تاريخ هكذا يتبدى للمتابع أن واقع اليوم هو نتاج لجهد الأمس، فالكهرباء ظلَّت عملاً تراكميًّا بدأ بمبادرات فرديَّة، ثمَّ تحوّل توليد الكهرباء إلى عمل منظم لكنَّه صغير الحجم، لنصل إلى ما وصلنا إليه حاليًا من انتشار للطَّاقة الكهربائيَّة، واتساع في الرقع الجغرافية التي تغطيها هذه الطاقة. هي رحلة ماتعة تُؤكِّد أن السير على الدرب لا بد أن يقود للوصول إلى الغايات، والكهرباء سارت على درب هذه الغايات.. بالرغم من أن طموحاتها تتمدد إلى ما وراء الأفق. إن كل هذه المعلومات، التي استقيناها من مصادر تاريخيَّة، هي تأكيد لتلك الرحلة القرنية، التي جعلت المملكة جزيرة مضيئة كواحة وضاءة، يلحظها من يشاهد أيّ من مدن المملكة ليلاً، وهو ينتقل جوًّا أو برًّا في هذه البقعة الشاسعة الواسعة الجميلة.. المملكة العربيَّة السعوديَّة.