حين ابتدأ حسن البنا تأسيس جماعة الإخوان المسلمين لم يكن يطمح في البداية - أو هو ما أعلنه - إلى أكثر من رفع شعار مقاومة التغريب والتبشير وإصلاح الأخلاق، ثم أتبع ذلك بالدعوة إلى مقاومة الاستعمار الإنجليزي عن طريق تكوين «الجوالة» ثم يترقى الأخ إلى المرتبة الثالثة «الإخوة العاملون» التي تهيئ للمرتبة الرابعة في جهاز «النظام الخاص» وهي «الإخوة المجاهدون» أرقى الرتب في الجماعة وأكثرها وثوقا وانتقاء وتدريبا وسرية ضمن النظام السري الخاص، ولم يكن مفهوم التدريب للإخوة الجوالة في بدء نشأته يتجاوز الاستعداد لمواجهة المستعمر؛ ولكن ذلك لم يكن إلا ستارا لمواجهة النظام الملكي الحاكم - آنذاك - ثم النظام العسكري الذي خلفه؛ وقد أوضح حسن البنا في رسالته «نظام الأسر ورسالة التعاليم» مفهوم البيعة مخاطبا الإخوان المجاهدين من الإخوان المسلمين بأنها تقوم على عشرة أركان: الفهم، والإخلاص، والعمل، والجهاد، والتضحية، والطاعة، والثبات، والتجرد، والأخوة، والثقة «وسمى المجاهدين بأنهم رجال الكتائب، وجاء تنظيم الكتائب الجهادية بعد اصطدام الجماعة بالإنجليز عام 1942م، ثم تطورت الكتائب وتضخمت تحت مفهوم «الجوالة» في كل القطر المصري إلى أن وصل عددها قبل قرار حل الجماعة عام 1948م إلى 70000 ألف جوال، تنتخب منهم صفوة من يوثق بهم ليكونوا صقور الكتائب الفدائية المجاهدة، وفيها تخرج عبد المجيد حسن قاتل النقراشي باشا عام 1948م، ومحمود عبد اللطيف المتهم بإطلاق الرصاص على جمال عبد الناصر في الحادثة المشهورة بمنشية البكري بالإسكندرية عام 1954م، وهي الحادثة المشكوك في أمرها وما قيل عنها من أحاديث قريبة من الصحة بأنها مؤامرة أمريكية ناصرية للقضاء على الجماعة وتصفيتها بإلصاق اتهام الاغتيال التمثيلي المدبر بأن يطلق أحد رجال المخابرات الرصاصات في الهواء دون أن تصيب عبد الناصر، لأنه محتم بلباس واق للرصاص تم استيراده لهذا الغرض من أمريكا، ثم يتهم أحد أفراد الجماعة ممن حضر الخطاب في الصفوف الأولى بإطلاق الرصاص، ليتم بعد ذلك زج ما يقرب من ثلاثة آلاف من الإخوان في السجون، وإجراء محاكمات عبثية ترأسها جمال سالم، وتطبيق أحكامها بالإعدام على النخبة القوية من قادة الجماعة ومفكريها كعبد القادر عودة ويوسف طلعت وصالح عشماوي ومحمد فرغلي وإبراهيم الطيب، وغيرهم. لم يكن طموح حسن البنا مقصورا على التغيير داخل مصر؛ بل كان يرى أن فكر الجماعة عالمي؛ ولذا سعى إلى تأسيس مندوبين للجماعة في عدد من الأقطار وفق الظروف السياسية المتاحة آنذاك، ولم تكن المملكة وهي مهبط الوحي ومركز انطلاق الإسلام وموضع العواطف الروحية الجياشة نحو أي شعار يرفع راية الدين بغائبة عن طموح البنا؛ فطلب من الملك عبد العزيز - رحمه الله- عام 1948م الموافق 1368ه الموافقة على افتتاح مكتب للإخوان؛ فرفض الملك وأجابه بحزم جوابا مسكتا حكيما يدرك ما وراء خبايا الجماعة وطموحاتها قائلا: كلنا إخوان! وقد اجتهدت الجماعة لاحقا بتوسيع دائرة انتشار فكرها، واستقطاب أتباع ومريدين داخل مصر وخارجها، ومنحتها الضربات المؤلمة التي واجهتها في صدامها مع الأنظمة العسكرية -وبخاصة النظام الناصري- جاذبية خاصة، وتعاطفا جماهيريا، وتحول فكر الجماعة من البناء والإصلاح والتربية والتكوين والحشد على يد المؤسس البنا كما توضح رسائله وكتابه «مذكرات الدعوة والداعية» إلى مرحلة المواجهة الشاملة مع الأنظمة الحاكمة عن طريق العنف بعد أن توغلت في دماء الجماعة وتعذيب وسجن آلاف من أفرادها؛ وتجلى مفهوم الانقلاب الشامل على المجتمع عن طريق وصمه بالجاهلية واتهامه بالردة الذي كان منطلقا مكشوفا وسالكا نحو نشوء جماعات التكفير لاحقا؛ تجلى ذلك في تنظير تلك المفهومات العنفية الحادة في كتاب سيد قطب «معالم في الطريق» الذي صدر عام 1965م فأصبح منفستو للجيل الجديد من الجماعة الذي رأى مصارع قادة التنظيم بدءا بعام 1949م حين اغتيل البنا وما أعقبه من مطاردة وحصار لأنشطة الجماعة على يد إبراهيم عبد الهادي، ثم عام 1954 حين بدأت التصفيات بعد الاتهام باغتيال عبد الناصر، ثم عام 1965م حين اتهم سيد قطب وثلة من شباب الجماعة بإعادة تكوين النظام الخاص وجمع الأسلحة وتفجير المنشآت وتدبير الاغتيالات لرموز النظام الناصري. ويمكن التمييز هنا - بعد أن تتبعنا موقف الجماعة السياسي والفكري في المراحل الآنفة المذكورة - بين موقفها من الحاكم في مرحلة البنا ثم في مرحلة قطب؛ فكانت عند المؤسس للجماعة تهادن وإن كانت تهيئ وتستعد للمواجهة وقت اللزوم، وعند قطب اتخذت المواجهة بالعنف سبيلا لفرض فكرها بعد أن وصمت المجتمع حاكما ومحكوما بأنه «جاهلي»، ومن يميل إلى فكر البنا المهادن التربوي يعرفون ب: البنائين، ومن يميلون إلى العنف والمواجهة المسلحة والتكفير ب: القطبيين. لقد رأت الجماعة في نظامها التأسيسي بأن مهمتها عالمية؛ وليست قطرية، واتخذت لتكوين أفرادها نظاما حزبيا قاسيا ودقيقا، يقوم على التأثير والاستقطاب، ثم الانتساب والتربية والتكوين والتدريب، ثم البيعة والولاء والفداء والجهاد والسرية، ويتم كل ذلك من خلال نظام الأسر، ثم الشعب، ثم المكاتب الفرعية، ثم مجلس شورى الجماعة، ثم مجلس الإرشاد الأعلى. وحرص مكتب الإرشاد العام العالمي على منح مكاتب الأقطار حرية العمل وأخذ البيعات من الإخوان الجدد؛ تيسيرا لمهمات المكاتب القطرية في العالم ومنحها حرية العمل؛ فتكونت فروع للجماعة في أقطار الوطن العربي والإسلامي، منها المعلن ومنها السري الذي تحول دون إعلانه موانع سياسية، ورأينا تأثيرها العميق في اكتساحها عددا من البلدان العربية إلى أن وصلت إلى سدة الحكم في مصر وتونس والسودان والمغرب وغيرها. وسأناقش في المقال القادم تأثير فكر الجماعة في البيئة الفكرية السعودية، ومدى تغلغل فكرها في جيل من هم في الأربعين فما فوق - على الأخص - كثمرة لمرحلة من حرية العمل الإخواني في المملكة خلال أربعين عاما بدءا من عام 1385ه إلى عام 1420ه. [email protected] mALowein@