إذا كان الإبداع يعني الخلق على غير مثال، فإنّ حرية الإبداع تعني أن يتاح لهذا الخلق أن يتحقق، وأن يأخذ طريقه إلى النور والعلن لأنه بذلك يمتلك أهميته وتأثيره، وهو عندما يصل إلى عقل متلقٍّ وفكره، فإنه في تلك اللحظة يخضع للنقد والمحاكمة، وذلك بما يطرحه فكر جديد يقبل به القارئ أو يرفضه. إنّ هذه السيرة لخط الإبداع لا تحقق في الواقع إلاّ في أضيق المسارب، فالإبداع في المحافظة التي تعيش خارج زمانها والتي تنوي إلى ترسيخ الثوابت، تعتبر في طيّاته بذور عالم جديد لا يلبث أن يقوم على أنقاض العالم القديم، فالأمر الذي لا يوافق العقليات الراكدة بأفقها المحدود الذي لا يتجاوز سقف مصالحها. ولأنّ الإبداع يشمل كل نشاط إنساني أنتجه فكر الإنسان، سواء كان ذلك في العلوم أو الفنون أو الآداب، فإنه يؤسس لنهضة مادية وروحية في مجتمع ما ويضع حجر الأساس لحضارة جديدة تنهض لتواري ما سبقها ليست بعيدة عن الذهن. حضارة هذا القرن التي كانت نتيجة لثورة فكرية وعلمية وسعت كل الأفكار الجديدة في العلم والفن والدين والأدب، وكانت الرومانسية في العشرينات من القرن الثامن عشر هي أول مذهب نادى بحرية الإبداع، ودخلت في معركة ضارية شعارها التعبير والتجديد وحرية القول، وهي تجسِّد في هذه المطالب ضيقها من واقعها وعدم انسجامها معه ورغبتها في التغيير لأنّ العالم غدا صغيراً بثورة الاتصالات والقنوات الفضائية، فإنّ أصداء كل أفكار جديدة لا تلبث أن تبلغ أصقاعاً جديدة بعيدة عن المركز لتحتمل تأثيرها وإشعاعاتها لتلك الأمكنة المنسية. ولا شك أنّ المجتمعات العربية على اختلاف درجة تطوُّرها هي من تلك الأمكنة فما زالت تعاني التقييد والحجر على أفكار إبداعية، ويمارس عليها وصاية ورقابة قامعة تطال المبدع والمتلقِّي في آن معاً، فهي تمنع التواصل بينهما من جهة، وتسلب حرية وحق كل منهما من جهة أخرى. ويعود سبب هذا الاضطهاد لمحاولات الكتاب في تخطي قانون الوعي السائد في المجتمع، والاقتراب من الثوابت المعروفة وهي التي ينظر إلى مسألة الخوض فيها بأنه اختراقات لثوابت كيان المجتمع وقيمه المنقولة، ولذلك يكون الحظر عليها لمنع ما يمكن أن تحدثه من تغيّرات حقيقة القناعات والأفكار والمفاهيم المتوارثة. وكان الفكر الإنساني قد شهد هذه المحطات التي حُجر فيها على الإبداع الإنساني في أقبية محاكم التفتيش وتحت سلطة الكنيسة، وكان مناخ العصر في القرون الوسطى، والذي يتميّز بهيمنة الكنيسة والدولة معاً على الحياة العامة، كان يرى أنّ الكلمة تحمل خطراً يهدد امتيازات القوى النافذة وأفكارها الثابتة ومبادئها الأخلاقية وبغية منع الآراء الجديدة والتفكير الحر، قاموا بوضع فهرس للكتب المحرّمة، وقضوا بمنع طبع ونشر هذه الكتب التي وصفت بأنها خطرة أو سيئة، وهي الكتب التي تبحث في الإصلاح الاجتماعي أو السياسي أو غيرهما، وهكذا تم اللجوء إلى الرقابة الوقائية التي تماثل الرقابة الرسمية على الكتب في عصرنا، كما تم إصدار قوائم للكتب الممنوعة ليصار إلى حرقها... وكان حرق الكتب يسمّى حرق الأباطيل، والظريف هنا ما اشتهرت به قائمة روما من الكتب الممنوعة التي حرّكت المخيلة الشعبية لتنطق بمثل شعبي بالغ الدلالة يقول «ما تسجله روما يصلح للقراءة».. ذلك أنّ إجراءات المنع التقييد كانت تؤدي دوراً معكوساً لما تطمح إليه السلطات، وكان القرّاء المتعطِّشون للمعرفة يقبلون على هذه الكتب بإصرار وتحدٍّ رغبة في الاطلاع على الممنوع. وفي هذا الاتجاه دخلت مؤلّفات كتّاب كثيرين في دائرة المنع والحرق كمؤلّفات: ديكارت، جون لوك، جون ناتال، سويفت، دانتي، جاك روسو، فولتير، ويعتبر الأخير من أكثر الذين تعرّضت كتبه للحرق في القرن الثامن عشر، كما تعرّض كتّاب آخرون للسجن والحرق مع مؤلّفاتهم في أبلغ تضحية، وكان مرد هذا العنف والقهر الشديدين أو الإيمان المطلق، بل لا يجوز تجاوز ما تعتبره الكنيسة أنه كل الحقائق عن العلم والمعرفة والدين وإليه تنتهي الاجتهادات، وهنا يذكر في وقت مبكر عام 1142م مناداة المفكر إيبيلار «بتحرير العقل من قيوده واعتباره الحق الذي يحق له النقاش الحر في كل شيء بما في ذلك تعاليم الكنيسة إذا عبّر عن آرائه وحقه في إبدائها في كتابه (عقيدة التثليث)». إنّ إطلاق الإبداع يستند إلى مناخ الحرية في الدرجة الأولى، وهي قيمة هامة تمتلك القدرة على إحداث نقلة حقيقية في هذا العصر وذلك في تأكيد احترام الغير. التفاتة: المال يخلط العروق والأجناس (مثل يوناني) الرياض