قرر أن يذهب بأسرته إلى البحر في نزهة قصيرة، حيث الصخب، والملاهي المتناثرة على الشاطئ، لكنه سرعان ما عدل في الطريق تحت إصرار ابنته الصغرى. - «بابا وديني عند أمّولة»؟! - غالي والطلب رخيص حياتي. حين أنزل عائلته عند والدته، عاد إلى منزله وحيدا، فكانت ليلته صامتة، وإحساسه بالفراغ يكاد يقتله، توجه إلى غرفة النوم. تمدد على الأريكة وإذا بها تأتي في بهاء الفاتنات: - لا ترتعد ... فقد أرسلني سيد الفيافي من غرب هذه البلاد! - أطلب مني ما تريد؟! وسألبّيه على الفور قبل أن يرتد إليك طرفك. تمالكت نفسي، وقلت: - أخرجي قليلا ، سأفكر في أمنيتي ! أغمضتُ عينيّ. وتساءلت الذات... هل أحلم ؟! أم أنَّ التعب قد بلغ مني مبلغه. ماذا لو حاولت أن أجاري الموقف برباطة جأش هذه المرة؟. فكم عشت مغفلا في أزمنة الصمت! عشت أدافع زمنا بريئا عن حاجات الآخرين... وهمسُ طرقٍ رقيق على الباب يلحُّ على أذني، قلت: - تفضلوا! - هل فكرتَ سيدي في أمنيتك؟ - نعم. - وما هي؟! - وما المقابل؟! (قلتها مرتبكا) - لا شيء إنها المحبة والتقدير ليس إلا . دعوتها أن تستلقي بجانبي دون أن ينظر أحدنا إلى الآخر، والقلب يرجف من عطرها الموغل في التأريخ، في طرفة عين تمددت على السرير، وبأدب الكرام الذين لا يخشون الفقر سألتْ عن أمنيتي: - يا سيدي إن ما تطلبه الآن سيأتيك في لحظة يسيرة ، وبدون مقابل. - الذي يقلقني يا سيدة ... - لو سمحت آنسة... - عذرا يا آنسة الجن... قاطعتني قائلة: - آنسة الفيافي بنت سيد الفيافي شيخ صعاليك الجن في الغرب! ضحكتُ، فالتفتت إليّ مغضبة، فكادت أن تنزعَ قلبي بوجهها المشع نورا، وعطرها الآسر، تداركت الموقف، صارفا الحديث إلى وجهة أخرى: - عذرا سيدتي فنحن الصعاليك همنا تهذيب المجتمعات منذ القدم، وطالما أن القبيلة بشيوخها ورجالها وقادتها يشوّهون تأريخ الصعلكة، فلن تقوم لنا قائمة؛ لأننا مهتمون بشأن الفقراء! - ولهذا يا سيدي أتيت برغبة أكيدة من والدي وتشجيع كبير من أخي أن نكرمك. - أي تكريم، وما الذي فعلته من أجل الصعلكة؟! - نعرف تأريخك المشرف الذي نتابعه منذ خشونة أظفارك... قاطعتها ضاحكا، وجلست على الأريكة، فكانت قبلي جالسة، فسحبت ركبتي بلطف نحو ركبتيها، وقالت: - أتضحك على خشونة أظفارك! - نعم سيدتي. فأنتِ تصغرينني بعشرين عاما! ابتسمت قائلة: - أعلم أنَّ عمرك شارف العقد الخامس، وأنت ترفل في عناء من العيش، وشظف الحياة قد وسم فيك بميسمه الجاهلي! - يا سيدتي أنا لم أسأل امرأة قط عن عمرها، ولكن بما أنكِ تعرفين تأريخي وحياتي وعمري والمعاناة التي عركتني كثيرا، سأغامر وأسألك عن عمرك؟! - وكم تتوقع؟! - عشرون عاما. افترَّ ثغرها عن بَرَدٍ ياقوتي الجمال. وقالت: - يا سيدي عمري الآن أكثر من مئتي سنة مما تعدّون! تمددت خجلا على فراشي، وأقعدتني سائلة عن الأمنية، فقلت فورا: - اثنا عشر مليارا فقط. فأنا فقير كما ترين! قالت: - بالدولار الأمريكي أم بالريال العربي. - باليورو الأوربي سيدتي! - أتريدها في حسابك! - لا. في حسابات مفرقة، وبنوك متعددة، ومليار بالريال العربي عندي هنا في منزلي. سمعتُ حركة يسيرة للباب، ثم نادتني: - هي بانتظارك في المجلس. - من هي؟! - النقود التي طلبت. - ... لفني صمت مخيف. وحين أدركت خوفي، رمت بشرشفها الحرير الأبيض على وجهي، منصرفة بلطفٍ ساحر ! توجهت إلى المجلس، ورائحة المكان معطرة بعطرها البهي، فوجدت النقود صادقة ككل الصعاليك! قصة صالح السهيمي جدة