العظماء والمفكرون هم الذين ينظرون إلى حقائق أصول الأشياء -الحادثة أو التي ستحدث- والتي لا تكون ظاهرة للعيان، لذا فقليل من يفهمهم. (وتخصيصي لأصول الأشياء بشرط كونها حقائق هو من أجل إخراج نظريات المؤامرة والخرافات). وأما خواص الناس فعادة ما يتجادلون ويتناظرون حول الحوادث الناتجة عن حدوث الأشياء أو وقوعها. وأما البسطاء وهم الغالبية الساحقة فيُسلمون عقولهم للخواص. وبما أن الخواص يتحدثون في أمور يفهم هؤلاء البسطاء ظاهرها، فلذا ترى البسطاء يخوضون عن الخواص حروبهم في نزاعاتهم بالنيابة. فمثل الخواص في النظر إلى نتائج وقوع الحوادث لا أصولها، والبسطاء في التبعية لهم: كمثل سرب كان على ماء وأمن، فدوى صوت عظيم ففزعت منهم فئة (وهم مثل الخواص) فلحق بها جل السرب (وهم مثل البسطاء) فقادوهم إلى الجوع والخوف والمهلكة. بينما ثبتت قلة من السرب مكانها تنعم بخيراته لإدراكها أن أصل الصوت هو رعدٌ قد دوى مجلجلا، وهؤلاء مثل المفكرين والعظماء. ومن هذا قول النبي - عليه الصلاة والسلام - «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين», فالدين ليس هامشا في حياة المسلمين، بل إنه قيود وتضحيات وصبر على مكاره قد حُفت الجنان بها. والدين هو سر استخلاف الإنسان في الأرض، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ . لذا فمن حكمة الله وعدله أن جعل الدين بسيطا يسيرا يسهل فهمه لمن أراد أن يفهمه، وشاهده وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ، وقوله عليه السلام: «نحن أمة أمية» فلا تعقيد ولا سفسطة. فالدين دين الفطرة، والعقل الصحيح -المحرر من التبعية- هو الذي يدل على الفطرة التي تميز الإنسان وتُكلفه، والمنطق هو ميزان العقل. والغرب لم يتخل أبداً عن الدين جملة وتفصيلاً، بل تخلى عن جانب التعبد في الدين لأنه قيد على الشهوات. والغرب لم ينفضوا عنهم أحبارهم ورهبانهم، إلا لأنهم أجبروهم على أن يُسلموا لهم عقولهم لهم يعبثون فيها كيف شاءوا -خدمة لمصالحهم أو قصوراً في فهومهم- دون الالتزام باللوازم المنطقية وبما يقتضيه العقل الذي هو دليل الفطرة. قال تعالى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ . المعاملات في الإسلام، الأصل فيها الحل فيما ينفع مصالح الناس، والتحريم فيها لا يكون إلا بأصل ثابت صريح. وما جاء الإسلام بتحريم معاملة إلا ونجد أن الغرب الحديث قد منعها غالباً، إما ابتداء أو بعد ثبات فشل تجربتها. ومن أهم أسباب نجاح الغرب في حياتهم الدنيا هو تحكيمهم الفطرة في معاملاتهم -كاعتبار المصالح والعدل والحرية والأمانة والصدق والمكافأة والمساواة، إلى غير ذلك- فأصابوا بذلك دين الله في جانب المعاملات، فتقدموا وقعدنا لأننا أهملنا حقيقة وحتمية التغير الذي يثبته العقل السليم الذي هو دليل الفطرة التي هي دين الله. التقليد هو نوع من أنواع الحفظ، والحفظ وسيلة لتحصيل العلم ولكنه لا يجعل من صاحبه عالماً، ولذا يندر العلماء. فلا يدرك العلم من لا يستطيع الفهم، ولا يُؤتى الفهم من أفلس من المنطق. وعلى كلٍّ، فإدراك العلم مسألة وإظهاره أو العمل به مسألة أخرى. فالمسكوت عنه أنه كلما ضحلت ثقافة مجتمع وتسطح فكر أفراده كلما أصبحت الحقيقة مجرد وجهة نظر شاذة لا يفهمها المجتمع المُغيب فكرياً، لذا فهي لا ترقى إلى مستوى وجهات النظر الأخرى كآراء المقلدين والمدلسين والمجانين.