عانى المزارع السعودي خلال السنوات الماضية من مشكلات تكاد تكون لا حصر لها في ظل افتقاده شبه الكامل لمن يضع يده على احتياجاته الأساسية ويلبي طموحاته التي هي في الحقيقة طموحات المملكة بأكملها، فلا يَخفى على أحد ما للزراعة من دور هام في توفير الأمن المجتمعي. كان المزارع وما زال يفتقد إلى المعلومات الآنية والدقيقة للنشاطات الزراعية المختلفة، ولا يُدرَى على وجه الدقة من المخول بخدمة كل ذوي العلاقة بالقطاع الزراعي، ما أدى إلى تذبذب المعروض في الأسواق من المنتجات وصعوبة تحديد حجم ومواقع الطلب لكل منتج زراعي وبالتالي صعوبة تحديد حجم العرض المطلوب ومصدره، وهو الأمر الذي أدى إلى ارتفاع حجم الفاقد ونقص بعض المنتجات وتذبذب الأسعار بالأسواق وانخفاض مستوى أداء المزارع وخسارته في كثير من الأحيان. وساهم في إرباك المزارع اضطراره إلى اللجوء لأسلوب التخمين في تحديد المحاصيل التي يزرعها، واضطراره كذلك إلى تنويعها كأداة للحد من حجم المخاطرة، وبالتالي زيادة الرقعة الزراعية التي يزرعها ورفع حجم الكلفة وزيادة هدر المياه، إلى جانب ضعف المناولة والتسويق وسلاسل الإمداد، وهو ما أدى في النهاية لتواضع حجم الاستثمار بالقطاع وتدني الأداء لارتفاع حجم المخاطرة، مع انخفاض المردود المادي للمنتجين بسبب سوء التخطيط للإنتاج وسوء توزيع المنتجات على الأسواق. ما سبق مجرد غيض من فيض فيما لاقاه القطاع الزراعي من إهمال أو على الأقل افتقادٍ لإستراتيجية واضحة تحقق الأمن الغذائي وتعالج الفقر وتعزّز النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة، وكانت النتيجة أن أصبح القطاع الزراعي هو القطاع الأكثر تضرراً في المملكة جراء افتقاد هذه السياسات. ومن خلال مقالات عدة سابقاً قد يذكر القارئ كيف طالبت بضرورة إقامة بحوث موثّقة ومراكز معلومات وطنية للزراعة، دعماً لبناء قاعدة علمية زراعية قوية والاعتماد على البحث والتطوير كشرط ضروري للتنمية الزراعية المستدامة وتنويع القاعدة الاقتصادية وتحسين مستوى المعيشة لاسيما في المناطق الريفية، على أن تكون هذه خطوة ضمن إستراتيجية متكاملة للبحث الزراعي والتطوير وتحديد أولويات البحوث والأهداف والمتطلبات من الموارد المختلفة. اليوم، ها هو أحد مطالبنا نراه يتحقق ويمكننا اعتباره خطوة لوضع القطاع الزراعي على الطريق الصحيح ليقوم بدوره ويسترد عافيته، فقد أطلق صندوق التنمية الزراعية المبادرة الأولى له والتي تهدف إلى استدامة التنمية الزراعية ومعالجة مكامن الضعف الحالية، عبر إنشاء مركز وطني للمعلومات الزراعية، وقد أسعدني كثيراً الإعلان عن إنشاء هذا المركز الذي يوفر المعلومات ويخدم ذوي العلاقة بالقطاع الزراعي، ويزيد من قيمته أنه تم إعطاء تنفيذه لجهة مختصة وتم تشكيل مجلس تأسيسي له. ولعل ظهور هذه المبادرة قد يساعد أصحاب القرار على مواجهة الكثير من التحديات التي تجابهها المملكة وعلى رأسها محاربة الفقر وتطوير الأرياف والمساعدة بخفض نسبة البطالة، وذلك عن طريق الزراعة الاجتماعية التي تمثّل إحدى أهم الركائز لتحقيق بعض التحديات المتعددة التي تتطلب رؤيةً وحلولاً لتطوير القطاع وتحويله إلى قطاع إنتاجي مستدام يأخذ بعين الاعتبار حاجات المجتمع الراهنة دون المساس بحقوق الأجيال القادمة في الوفاء باحتياجاتهم. ووفقاً للمهندس عبد الله بن سليمان الربيعان رئيس مجلس إدارة الصندوق فقد وافق الصندوق على تمويل إقامة مركز المعلومات من خلال كيان مملوك بالكامل للصندوق يتولى تشغيل المركز على أن يقوم المركز مستقبلاً بالاعتماد على موارده الذاتية، كما تم رسم أهداف إنشاء المركز وفق أسس أهمها توفير المعلومات الآنية عن المنتجات الزراعية واحتياجات الأسواق بمستوى عال من الدقة من خلال الإنترنت. كما سيسهم المركز في تقليل نسبة الفاقد من المنتجات عن طريق توفير المعلومات لسلاسل الإمداد لرفع مستوى الخدمة في الأسواق، ومساعدة المنتجين على التخطيط المسبق للإنتاج، وتحديد الفرص المتاحة بالقطاع واستغلالها، ورفع مستوى المردود المادي على المنتجين، وخفض الاستهلاك من المياه في الري، وتقليص الفجوة بين العرض والطلب، ومساعدة مقدمي الخدمات الزراعية على تنظيم أعمالهم، وجمع المعلومات الزراعية وتوفيرها بشكل آني وآلي وتفاعلي لجميع أصحاب العلاقة المهتمين بالقطاع الزراعي من مزارعين وتجار وموفري خدمات وأجهزة الدولة المختلفة، وكل هذا إن تم فسيكون قفزة ولا شك. ولعلي في ختام مقالي أشير إلى ثلاث نقاط أرى أنها من الأهمية بمكان: - سيظل التعويل على الزراعة إن لاقت الاهتمام اللازم قائماً لتحقيق الأمن الغذائي والأمن الاجتماعي بإسهامها في استقرار القرى والهجر ومدن الأطراف والحد من النزوح للمدن الكبرى، حيث سيسهم القطاع الزراعي حينها في إيجاد فرص عمل لسكان المناطق من خلال الأنشطة العديدة التي تتولد عن أنشطة الاقتصاد الزراعي. - ولما كانت الزراعة هي السبيل الأنجع لمعالجة أو المساعدة في التحفيز الاقتصادي للأرياف ومعالجة الفقر، لذا أتمنى على وزير الاقتصاد والتخطيط د. محمد الجاسر ممثلاً بمصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات أن يكلّف من يقوم بعمل تقرير عن حالة الفقر في المملكة استناداً لبيانات مسح نفقات ودخل الأسرة، فنحن نعلم جزءاً من حل مشكلة الفقر وجيوب الفقر، لكننا للأسف الشديد نفتقد للمعلومات الدقيقة عن حجم الفقر ونسبته والأماكن الأكثر فقراً. - أخيراً أرجو لهذا المركز الناشئ والخاص بالمعلومات الزراعية والذي بُحّت أصواتنا في المطالبة به ضمن جملة مطالب أخرى لإصلاح القطاع الزراعي ألا يكون صورة مستنسخة من كثير من المراكز والهيئات والمبادرات التي هللنا لها كثيراً قبل أن نكتشف أنها وعدمها سواء، فغاية أملنا أن يبتعد عن البيروقراطية وأن يلتزم فقط بما أعلنه من أهداف وآليات وطريقة عمل لتنفيذ أدواره المنوطة به والغرض الذي أنشئ من أجله.