تقدم الندوة العلمية التي ينظمها كرسي الأمير سلمان بن عبدالعزيز للدراسات التاريخية والحضارية للجزيرة العربية بجامعة الملك سعود السبت القادم عن الجوانب العلمية والإنسانية في تاريخ الملك عبدالعزيز دعوة للباحثين والباحثات لرصد مزيد من الأحداث والأخبار عن الجهود والمواقف التي قدمها الملك عبدالعزيز - رحمه الله - لصناعة الأمن الاجتماعي والاطمئنان الإنساني داخل المجتمع الذي تتبلور صورته الأخيرة ووضعه الجديد بعد حالة من المعارك فعلى ضرورة الحروب الملحة لتوحيد البلاد فإن أي حرب تترك اضطراباً اجتماعياً وتهز من الاطمئنان العام نتيجة الترقب والحذر، ثم على هؤلاء الباحثين والباحثات تعريض هذه الشواهد التاريخية للتفحص والدرس العميقين وأثر تلك الأحداث في بناء المجتمع السعودي الحالي وما فيه من صور التكافل الاجتماعي والعمل الخيري المؤسسي المنظم، فبالرغم من مسيرة تأسيس المملكة العربية السعودية وتداعياتها الإيجابية من بناء مؤسسات ومنهج عمل وإستراتيجية شاملة من ترسيخ مبادىء العمل الخيري سواء كسلوك عام، أو كمؤسسات عمل ضمن عملية قيام الكيان الحكومي للدولة لم ينشغل الملك عبدالعزيز، ولم يغفل أن هذه العملية الكبيرة في البناء النفسي والمادي قد تسبب ربكة اجتماعية مقلقة يُنسى في غمارها المحتاجون والفقراء والمساكين، فالبلاد قامت وترعرت على تعاليم الشريعة الإسلامية التي دعت إلى التكافل والتصدق والتزكي بالمال، وهذان السببان فضلاً عن حب الملك المؤسس -رحمه الله- لعمل الخير وتقديم البرّ هما ما دعيا جلالته - طيب الله ثراه - إلى افتتاح مدرسة دار الأيتام بمكةالمكرمة تعد من أوائل المؤسسات الخيرية في العهد السعودي الحديث، في لفتة من الملك عبدالعزيز تجاه فئة من المجتمع تستحق العون والمساندة لإدماجها في العملية التنموية وإعطائها حقوقها في التعليم والتوظيف فيما بعد، وكانت تلك المدرسة تعتمد على تبرعات المحسنين، ولكن لمّا قلّت التبرعات خصصت لها الدولة مساعدات مالية حتى يستمر دورها الإنساني والاجتماعي وتقدم نموذجاً حافزاً للعمل الخيري، وأدى نجاح هذه الدار الخيرية ونجاح ضمّها إلى الحكومة إلى قرار الملك عبدالعزيز بضم إدارة دار الأيتام الأهلية بالمدينة المنورة إلى دار الأيتام الحكومية في مكةالمكرمة لحل مشكلة تقلبات ميزانيتهافي بادرة من قائد تناغمت في سيرته الصرامة مع العطف والقوة مع الخير وهي معادلة دائمة في سيرةأبطال التاريخ. الأحداث التاريخية متعددة عن تقديم الملك نموذجاً لأعمال الخير وتوسيع خيمة البر في المجتمع السعودي وتنمية المشروعات الخيرية السابقة لعهده، فيذكر خير الدين الزركلي في كتابه شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز أن جلالته - طيب الله ثراه - قد خصص في ميزانيته قسم خاص بالمبرات الخيرية يهدف تأمين الحاجات الأساسية للمحرومين من السكان، وقد بلغ ما أنفق على هذه المبرات خلال ثلاث سنوات فقط (1366 - 1368ه- ) مبلغ وقدره (270883211) قرش سعودي أي ما يعادل (270833) دولار أمريكي، وهذا التخصيص نوع من ترسيخ النشاط الخيري الحكومي في مالية الحكومة وميزانيتها حتى أصبحنا الآن نرى أن هذا التأكيد أدى إلى إنشاء وزارات تعنى بالمناشط الخيرية ومؤسسات وجمعيات غير ربحية في ميزانية المملكة العربية السعودية. وهناك شواهد مروية تناقلتها الذاكرة السعودية عن قصص كان فيها الملك عبدالعزيز قدوة في عمل الخير وقنوات البر من تلك الشواهد والتي تدل على مساعدة المحتاجين بسخاء وكرم جلالته - رحمه الله - أن أحد المدينين إشتكى إليه دينه ومضايقة الدائنين له وأن عليه دين بمقدار مائة جنيه، فكتب الملك على طلبه بأن يعطى مائة جنيه لكن جلالته تغلب عليه الكرم فكتب ثلاثة أصفار بدل صفرين أي ألف جنيه وحين راجعه مدير ماليته ليستدرك الخطأ، رد عليه الملك عبدالعزيز قائلاً: ليس القلم بأكرم مني، فاصرفوا له ما قسمه الله، وتلك الشواهد الإنسانية من حب الخير وزرعه في قلوب الناس وتعويد معاونيه - رحمه الله - على طرقه ليست غريبة منه فهو كثيراً ما يردد في علاقته بالمال - طيب الله ثراه -: ( كل ما في الوجود يحب المال، ولكني والله،ثم والله،لا أحبه إلا بقدر ما أقضي به مصالح المسلمين وليس لهذا المال وعظمته عندي من قيمة، وإن ما أحبه وأريده هو رضا الله). وهذا مادعى الشاعر الكبير فؤاد شاكر يقول في قصيدة عصماء بمناسبة مرور خمسين عاماً على تأسيس المملكة العربية السعودية عن الملك عبدالعزيز : وكم عثرة لم يدرِ كيف يقيلها أخو نجدة كادت لها النفس تزهق أطلت عليهم من نداك مبرّة مع الصبح كالفجر الذي يصدق ففي كل دار من أياديك منّة وفي كل بيت منك جِيد مطوّق فكانت أياديك الرحيمة بلسماً يداوي جراحات النفوس ويرفق فالشعر ترجمان للحياة وصوت يوثق لكثير من الأحداث والمزايا لحياة المجتمع مثلما هو نابذٌ للعيوب والنواقص، فالشاعر فؤاد شاكر في هذه الأبيات يلتفت إلى الأعمال الخيرية للملك عبدالعزيز ويشيد بها معبراً عن صوت المجتمع،والشواهد المروية في هذا السياق كثيرة ومتعددة إلا أن المؤمل أن تكشف أوراق الندوة العلمية عن الجوانب الإنسانية والاجتماعية في تاريخ الملك عبدالعزيز مزيداً من تلك المواقف الإنسانية والمناشط الخيرية وأثرها في اللحمة الوطنية وفق المنهج الإسلامي القويم ونقل تلك المبرّات الفردية في عهده -طيب الله ثراه- إلى حالة عامة وسلوك مجتمعي يعزز الولاء والحب بين أفراد الشعب السعودي.