لاشك أن شبكة الانترنت قد أثرت على نشر المعلومة بين الناس، بسبب كثرة مواقع التخاطب «المنتديات» وسهولة الاشتراك بها، والكتابة فيها، اذا ما قورنت بالكتابة الصحفية على سبيل المثال التي تستوجب حداً أدنى من المواصفات لا يمكن التنازل عنها، وحداً أدنى من الرقابة الاعلامية «تختلف من بلد إلى آخر» هي الأخرى لا يمكن التنازل عنها. وبناء عليه أصبح كل من يتصل بالانترنت قادراً على كتابة: وجهة نظر، أو معلومة علمية، أو دينية. ثم يتلقاها الناس على اختلاف مستوياتهم العمرية والفكرية ويتناقلونها بينهم. وتزداد انتشاراً اذا ما وافقت هذه المعلومة هوى سابقاً في النفس أو رغبة متبعة، فيتم تداولها وتوزيعها على من يعرف دون أن يتحقق من صحتها. مما قد يوقع الضرر عليه في الدنيا أو في الآخرة. ذلك أن الإنسان محاسب على كل ما يتلفظ به كما قال تعالى: «ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً» (سورة الكهف آية 49)، وقوله عز من قائل «ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد» (سورة ق آية 18)، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه وقد أخذ بلسانه: «كف عليك هذا» فقال: «يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به» فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» (رواه أحمد بن حنبل في المسند «36/344 حديث 22016» والترمذي في الجامع «5/11 حديث 2616» وقال: هذا الحديث حسن صحيح، وابن ماجه في السنن «2/1314 حديث 3973» والنصوص في هذا الباب كثيرة معلومة، وإنما ذكرت ببعضها. ومما تناقله بعض الناس في المنتديات، أو عبر البريد الالكتروني، أو من خلال الرسائل القصيرة في الجوال، ما يفيد أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر «تفجير مبنيي التجارة العالمية بنيويورك، ومبنى وزارة الدفاع الأميركية «البنتاغون» بواشنطن» قد جاء ما يدل عليها أو يشير إليها في القرآن الكريم، ومن خلال ما أسموه بالاعجاز العددي في القرآن، فقالوا: قد جاءت كلمات متقابلة ك: الدنيا والآخرة، الحياة والموت، الملائكة والشياطين، العجب والغرور، الزكاة والبركات، الرحمن والرحيم، العسر واليسر.. في القرآن الكريم بصورة متناسقة ومتوازنة يدل على أن القرآن معجز عددياً. إلى أن قال القائل مسترسلاً في بيانه وحديثه عن ا عجاز القرآن وهذه المرة سأنقل النص كما ورد في احدى رسائل الجوال المتبادلة بين الناس : «تذكر أحداث 9/11 في الطوابق 110 وانظر عجائب القرآن في جزء 11 سورة 9 آية 110، « وعندما تذهب إلى المصحف الشريف بحثاً عن الآية المحال اليها تجد قول الباري عز وجل «لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم» (سورة التوبة آية 110». وفي هذا نظر ظاهر من جهة أن تطبيق الآية الواردة في سورة التوبة على أحداث الحادي عشر من سبتمبر بقرينة التطابق العددي هو في الحقيقة «تفسير عددي» لا اعجاز عددي، وبين الأمرين فرق وان كان بينهما قدر مشترك على أساس أن بعض تفسير القرآن يتضمن اعجازاً، مثال ذلك مطلع سورة الروم، «أ لم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين..» «سورة الروم الآيات من 14» فوقع الأمر كما قال عز وجل فانتصرت الروم بعد تسع سنين، قال ابن كثير الدمشقي: «نزلت هذه الآيات حين غلب سابور ملك الفرس على بلاد الشام وما والاها من بلاد الجزيرة وأقاصي بلاد الروم واضطر هرقل ملك الروم إلى الانسحاب حتى ألجأه إلى القسطنطينية وحاصره فيها مدة طويلة ثم عادت الدولة إلى هرقل بعد تسع سنين «انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (6/304 وما بعده) القاهرة: دار الشعب». ثم ان التفسير العددي: تفسير محدث لم يستخدمه الرسول صلى الله عليه وسلم في معرفة الوقائع التي حدثت في عصره، ولم يستخدمه الصحابة الكرام رضي الله عنهم وهم أعلم الناس بمعاني القرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ عنه تلقوه ومنه تعلموه!، وكذلك التابعون لهم باحسان، والعلماء المعتبرون الذين تولوا تفسير القرآن العظيم بالمناهج المعروفة عند أهل العلم بالقرآن لم يسلك أحد منهم هذا المسلك، وهذه كتبهم بين أيدينا شاهدة بهذا. فإن قال قائل: بلى قد استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا التفسير. فيقال: فهل بلغه أمته من بعده أم لا؟. فان قال: لم يبلغ فقد زل زللاً عظيماً، وان قال بل بلغ، فيقال له: وأين هذا البلاغ؟ وهذه كتب السنة المشرفة مليئة بالأحاديث النبوية الشريفة، فإن قال: ان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستخدم هذا التفسير العددي للقرآن لعدم وجود الحاجة إليه في عصره؟ فالجواب: بل وجدت أحداث عظيمة، وكان المؤمنون يترقبونها، ومع ذلك لم يظهر هذا التفسير، وأقرب مثال على ذلك مسألة حرب الروم مع الفرس فان المؤمنين كانوا يتابعون أخبارها حتى أن الله أخبر بأنهم سيفرحون لنصرهم، أضف إلى ذلك معارك الإسلام الخالدة: بدر، وأحد، والخندق التي اجتمع فيها قبائل الشرك مع اليهود على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة، وكذلك فتح مكة، ويوم حنين، وتبوك، وكلها مواقع ورد ذكرها في القرآن الكريم، وبعضها في أكثر من مكان، ومنها ما سميت سورة بكاملها باسمها، وفي كل هذا دلالة عظيمة على عظم شأن هذه الأحداث والمواقع. ثم إن الأحداث الكبار وقعت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ما وقع كاقتتال الصحابة فيما بينهم، ومنها ما لم يقع كخروج الدجال الذي لم يبعث نبي إلا حذر أمته منه، ومع ذلك لم يحاول أحد من الصحابة معرفة ما حدث أو سيحدث، أو التدليل له، من خلال التفسير العددي للقرآن. ثم في تفسير الآية على هذا النسق مخالفة لتفسير أهل العلم بالقرآن قاطبة، اذ إن العلماء فسروا الآية الواردة في سورة التوبة على أن المراد بالبنيان هو مسجد الضرار الذي بناه بعض المنافقين اضراراً وكفراً (انظر مثلاً: جامع البيان في تفسير القرآن، لأبي جعفر الطبري (11/25)القاهرة: دار الحديث» فكيف يقال ان المقصود بالبنيان في الآية وبعد هذه المدة الطويلة هو المبنيان الموجودان بالولايات المتحدة الأمريكية!! ثم ان هذا النوع من التفسير لو صح لأنتج حكماً شرعياً باجازة مثل هذا التفجير فتأمل!! مع أن أحداً من أهل العلم بالكتاب والسنة من الذين جرموا مثل هذا العمل أو اجازوه لم يستدلوا بمثل هذه الآية، فضلاً عن استخدامهم لهذا المسلك أصلاً، مما يدل على مجانبته للصواب جملة وتفصيلاً. وعوداً على نظرية التناسق العددي في القرآن ومن أشهر من أظهر مثل هذا التناسق الدكتور عبد الرزاق نوفل، فقد ذكر أنه في عام 1959م وجد تساوياً في عدد مرات ذكر الدنيا وعدد مرات ذكر الآخرة، اذ تكررت كل منهما (115) مرة في القرآن رغم اختلاف معظم الآيات التي وردت فيها الدنيا عن تلك التي وردت فيها الآخرة، وبعد سبع سنوات من التاريخ السابق وجد تساوياً في عدد مرات ذكر الملائكة وعدد مرات ذكر الشياطين، اذ وردت كل منها (88) مرة.. الخ (انظر: حول الاعجاز العددي في القرآن الكريم، للدكتور عبد الرزاق نوفل مقال منشور في مجلة المنطلق: العدد الثاني، ربيع الآخر، 1398ه» وفي هذا كله نظر من جهة المنهج، ومن جهة التطبيق، فأما رده من جهة المنهج فيقال: انه تعامل محدث مع القرآن الكريم، لم يكن موجوداً في الصدر الأول، والأمور الشرعية «بخلاف الأمور الدنيوية» مردها إلى الأمر العتيق. وأما رده من جهة التطبيق فالملاحظ عليهم أنه ومن تابعه في اثبات هذا النوع من الاعجاز يعتمد على المنهج الانتقائي في الكلمات التي يختارونها لاعمال التوازن المزعوم، وقد قدم الدكتور أشرف عبد الرزاق قطنة دراسة نقدية على الاعجاز العددي في القرآن الكريم، وأخرجه في كتاب بعنوان: «رسم المصحف والاعجاز العددي، دراسة نقدية في كتب الاعجاز العددي في القرآن الكريم» وخلص في خاتمة الكتاب الذي استعرض فيه ثلاثة كتب هي (1) كتاب «اعجاز الرقم 19» لمؤلفه باسم جرار. (2) كتاب «الاعجاز العددي في القرآن» لعبد الرزاق نوفل (3) كتاب «المعجزة» لمؤلفه عدنان الرفاعي. وخلص المؤلف الى نتيجة عبر عنها بقوله: «وصلت بنتيجة دراستي إلى أن فكرة الاعجاز العددي «كما عرضتها هذه الكتب» غير صحيحة على الاطلاق، وأن هذه الكتب تقوم باعتماد شروط توجيهية حيناً وانتقائية حيناً آخر، من أجل اثبات صحة وجهة نظر بشكل يسوق القارئ الى النتائج المحددة سلفاً، وقد أدت هذه الشروط التوجيهية أحياناً إلى الخروج على ما هو ثابت باجماع الأمة، كمخالفة الرسم العثماني للمصاحف، وهذا ما لا يجوز أبداً، والى اعتماد رسم بعض الكلمات كما وردت في احد المصاحف دون الأخذ بعين الاعتبار رسمها في المصاحف الأخرى، وأدت كذلك الى مخالفة مبادئ اللغة العربية من حيث تحديد مرادفات الكلمات وأضدادها «ص 197» دمشق: منار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1420ه/1999». وقد ذكر الدكتور فهد الرومي أمثله على اختيار الدكتور عبد الرزاق نوفل الانتقائي للكلمات حتى يستقيم له التوازن العددي ومن ذلك قوله ان لفظ اليوم ورد في القرآن (365) مرة بعدد أيام السنة وقد جمع لاثبات هذا لفظي «اليوم» ،«يوماً» وترك «يومكم» و«يومهم» و«يومئذ» لأنه لو فعل لاختلف الحساب عليه! وكذلك الحال في لفظ الاستعاذة من الشيطان ذكر أنه تكرر (11) مرة. يدخلون في الاحصاء كلمتي «أعوذ» و«فاستعذ» دون «عذت» و«يعوذون» و«أعيذها» و«معاذ الله» (انظر: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر (2/699 700) بيروت: مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1414ه». وانه مما يمكن أن يقال هنا ان في اختيار التاريخ الميلادي، وتقديم اليوم على الشهر لا العكس، والبحث عن ما يطابقه في القرآن تحكم بحت! والا فلم لم يختاروا التاريخ الهجري مثلاً للواقعة مع أنه الأليق بنصوص الشريعة. وأخيراً: ان الذين فرحوا لمثل هذا لا شك انهم فرحوا لما ظنوا انه دليل آخر على اعجاز القرآن، أو أنهم فرحوا لأنهم وجدوا ما يدل على مشروعية مثل هذا الحادث. وكلا الأمرين خطأ، وقد علم أن القرآن معجز بلا شك فهو من عند الله، ولكن ليس في القرآن، ولا السنة النبوية، ولا عمل الصحابة، ولا علماء التفسير ما يدل على مسلك مثل هذا النوع من التفسير، واستنباط الأحكام الشرعية من مثل هذا المسلك «الاعجازي العددي» هو الآخر غير صحيح، فالعلماء قد وضعوا أصولاً وقواعد يرجع اليها، وليس منها أو فيها مثل هذا، وبناء على ما تقدم أقول: «كم مريد للخير لم يصبه» و ليتقوا الله في الشباب الذين يرددون ما يسمعون ويقرأون بحسن ظن منهم لهم، وليتقوا الله في أقوالهم وأفعالهم انهم لمسؤولون والحمد لله رب العالمين. * أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بقسم العلوم الإنسانية