مع وجود وسائل التواصل الإلكتروني الفذة في سرعتها، وقدرتها، وخصائصها.., وتمكنها من الفورية، والاعتماد عليها في المعاملات الرسمية، والعلمية، والشخصية.., إلا أن المصانع لا تزال تضخ أشكالا, وأنواعا من الأقلام، وورق الكتابة، ودفاترها، وملفات أوراقها،.. كما لا تزال مؤسسات البريد التقليدية تفتح صناديقها، وتسير خطوطها أرضا وجوا وبحرا,.. ولا تزال الأقلام زينة الجيوب والحقائب، ولا يزال التعليم لم يخلِّص أعضاءه، ولا طلابه، منها، ولا تزال البنوك، ومؤسسات التبادل لا تقبل التوقيع إلا بخط اليد وحبر القلم،.. ولا تزال المحاكم في القضايا كلها لا تمرر ورقة مكتوبة بالطابعة, أو اليد إلا بالإقرار الخطي الممهورة به الشخصية.., ورمزية انتمائها.. الاسم والتوقيع... بمعنى أن هناك قيمة باقية لخط اليد..، ومصداقية لإثباته، واعتمادا عليه في أي أمر يراد فيه الإقرار، والإثبات.., ويرجع إليه لما يراد معرفة المسؤول عنه..هذا في الجانب الموضوعي للكتابة بخط اليد.. أما في الجانب المعنوي لها, فإن خط اليد حين ينقل فكرة، أو رأيا، أو حاجة، أو تعبيرا في مناسبة، يتبادل به الناس مواقفهم وحالاتهم، ويعبرون به عن مناسباتهم لبعضهم، فهو أكثر مساسا بالنفس،.. وأصدق تعبيرا عنها..., والإنسان ليس شيئا موضوعيا مجردا من الحس.., لذا كان خط اليد عند أهل العربية أمرا ذا بال, كرسوا له وعيهم، ومهاراتهم، ومداركهم، واعتبروا الخط جزءا من الشخصية، وقيموا به صاحبه، وجعلوه مادة أولى في تدريسهم.. هذا الخط، اليدوي، عرف عند العرب بجماله، وفنه، وأنواعه،... خطَّت به دواوينهم : من الشعر والآثار، والخطابة، والأدب, والسيرة، والتاريخ، والمخاطبات في دواوين الوظائف, والمعاملات، بل الرحلات والروايات.., كذلك هو الحال في كل الأمم، اعتمد خط اليد لتوثيق تواريخ هامة من مراحل حياتها..، يتعلمونه عند تعلم أول حرف في أبجديتهم،... و لا تزال من أجله تصنع الأقلام، ويتبارى الناس لاقتنائها، ويتزيا بأفخمها وجهاؤهم.., ويوقع بها كبراؤهم،.., ولا يستغني عنه الراجل, والراكب، والتمأمل، والراكض.. فالقلم قيمة..., ووسيلة.. والكتابة به خط، ومهارة، وإن تكالبت عليهما تقنية اليوم بسرعتها، وتفوقها، إلا أنهما باقيان في منزلتهما, وهما مرجعية البرهنة لإثبات الشخصية في مجالات تقتضي البرهان، وللتعبير عنها في مجالات تقتضي الإحساس... هما قيمة مثالية للإحساس بقدرة الإنسان على الاحتفاظ بمهاراته.., لا تنفيها قدرته على استخدام كل وسيلة حديثة من شأنها أن تساعده في السرعة، واغتنام الوقت، وفوائد المنجزات.. كما إن الإيمان بهما عند أفراد لا يعني عدم استفادتهم من المنجزات الحديثة., فهؤلاء الأفراد في النهاية هم أعضاء في مجموعة البشر, الماضين نحو حياة استحدثت فيها هذه المنجزات, ليواكبوا بها عصرهم ومعطياته.., وقبلا استفاد الناس من الطابعات، نشروا بها الدوريات والمصننفات المختلفة، واستخدموها في المراسلات الورقية, والبرقيات،... ومع ذلك بقي عندهم للقلم، وخط اليد أهمية، فهم حين يحتفظون بهما قيمتين فاعلتين، فإنهم بالتأكيد ليسوا متأخرين عن عصرهم، أو عازفين عن ركبه...وإنما هم أصحاب موقف،... فالمستقبل كفيل بإثبات حقهم في مصداقية موقفهم.., لأنهم حتما يجدون في الكتابة باليد أهمية للحفاظ على المهارة, وعلى قيمة الخط اليدوي، وضرورة بقائه.., وقدرته الأبلغ في التعبير عن الإنسان،... والتماس مع ذاته... لذا لا أحسب سيندثر القلم، وخط اليد، و التراسل غير الافتراضي، في وجود تقنية التواصل الفارهة في تنعيم الإنسان... فلكل منافعه، وجدواه.. سيبقى القلم، وخط اليد، ومكاتب البريد، بمثل ما ستبقى الهواتف المكتبية والمنزلية في وجود الجوالات المتحركة.. فالطائرة لم تقض على العربة، والعربة لم تعطل القدم.. فما أسعدك بكتاب يصلك، وبخط صاحبه كلمات تذهب لعمقك، أو يقصدك صديق في شأن يزج على بابك وريقة فيها أمره، أو يفضي إليك محتاج بتفاصيل تحملها إليك رسالته بخطه إمعانا في الثقة بك.., مثل هذا لم تستطع بعد الآلة أن تسرقه من عروق الأصابع، ورسم القلم..ولحظة الإنسان.. تبقى لحبر الدواة رائحة تنفذ للعمق..,.. ولهمس القلم صوت لا تجفوه المسامع.. لو صنعوا للآلات أنهارا من الأحبار ما ماثلتها، ولا طغت عليها..، ولو تحولت لمسة لوحة مفاتيح الأجهزة لوقع المطر, ما احتلت منازله... تماما كما تبقى وسائل التقنية الحديثة أجمل وأجدى منافع الإنسان، في أمور أخرى أكثر حاجة لسرعتها, وقدرتها, وإمكاناتها المعينة لوقته, وتنظيمه، وحفظه، وتبادله..فهي بكل تأكيد منجزات متميزة في حياة الإنسان..لا يستغني عنها أحد أبدا.