مع اعلان وفاة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز رحمه الله يأتي الحديث عن صفحاته التاريخية المضيئة بدءاً من ولادته حيث بُشر الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود بولادة ابنه سلطان في فجر يوم الاثنين 16 شعبان 1349ه الموافق 5 يناير 1931م، فاستبشر خيراً صبيحة ذلك اليوم، ووجه بأن يسمى هذا المولود (سلطان)، ولا عجب أن يسمي الملك عبدالعزيز هذا الابن بهذا الاسم، فقد ولد سلطان بن عبدالعزيز في المرحلة التي بسط فيها موحد هذه البلاد سلطانه عليها، بعد أن خاض المعارك التي قضى فيها على مناوئيه، واستعاد بها أراضي مملكته. توالي الفتوحات بدأت مسيرة الملك عبدالعزيز وجهاده العظيم لتوحيد المملكة منذ استعادة الرياض سنة 1319ه فبعد أن استتب له الأمن في العاصمة الرياض انطلق في مسيرته الظافرة لتوحيد بقية مناطق المملكة، ففي 1321ه ضم الملك عبدالعزيز لبلدان العارض ودانت له شقراء عاصمة الوشم، وتمكن من ضم سدير والزلفي، وفي عام 1322ه تمكن من قتل عبدالعزيز بن متعب بن رشيد في معركة (روضة مهنا)، وبعد قتل ابن رشيد ضم الملك عبدالعزيز القصيم، وتوحدت نجد وما حولها تحت قيادته. وفي عام 1331ه ضم الملك عبدالعزيز إقليمالأحساء بكامله بعد أن هزم الحامية التركية هناك، وأصبح له منفذاً على مياه الخليج العربي، ما جعل البريطانيين يتطلعون إلى صداقته، فعقدوا معه معاهدة العقير الأولى عام 1332ه التي اعترفوا فيها باستقلال نجد والأحساء، وعام 1338ه ضم إمارة عسير إلى دولته على الرغم من قيام بعض القلاقل فيها، وتمكن من إخمادها نهائياً عام 1340ه. ولم تنته سنة 1339ه حتى تمكن من ضم حائل، بل استطاع أن يضم الجوف في أقصى الشمال، وفي خلال عامي 1343-1344ه تمكن من دخول مكةالمكرمة، والمدينة المنورة، وجدة وإخراج الشريف حسين من الحجاز. وتوالت بعد ذلك الفتوحات والإصلاحات واستقرت الأوضاع الداخلية، وبدأ الملك عبدالعزيز يتطلع إلى تحسين العلاقات مع الدول المجاورة والصديقة، وانتهى به المطاف إلى الإعلان رسمياً عن أن مملكة نجد وملحقاتها والحجاز والمنطقة الشرقيةوالجوف ووادي السرحان وبلاد عسير وغيرها من المناطق قد أصبحت دولة واحدة موحدة باسم المملكة العربية السعودية في 21 جمادى الأولى من عام 1351ه الموافق 22 سبتمبر سنة 1932م. وهكذا كان إعلان المملكة العربية السعودية بعد ولادة سلطان بن عبدالعزيز بتسعة أشهر، ومن هنا كان مغزى تسمية الملك عبدالعزيز هذا الابن بهذا الاسم، وهو اسم المرحلة التاريخية التي بدأت مع ولادة سلطان وهي مرحلة الأمن والاستقرار وبسط السلطان على جميع أنحاء المملكة ليس بالقوة العسكرية وحدها بل بما تحلى به الملك عبدالعزيز من صفات نادرة قلَّ أن تجتمع في شخص واحد سخرها في تلك الملاحم، فشخصية الملك عبدالعزيز الكاريزمية، وما اتصف به من شيم، وما اتصف به من أخلاق، وصلاح في الدين، وإيمان قوي بالله، وفضائل العروبة من الكرم والشجاعة والعفو، والحرص على المشورة، وصفاء الذهن، ونفاذ البصيرة، والصبر عند الشدائد، واقتحام المخاطر، وقوة الإرادة، ومعرفة بالتاريخ وعبره، وحسن اختيار الرجال، وعمق المعرفة بقومه، وفوق كل ذلك عناية الله وتوفيقه أكبر الأثر في تحقيق تلك الإنجازات الباهرة والانتصارات العظيمة. فتح سلطان بن عبدالعزيز عينيه على أبيه الملك عبدالعزيز يزع بالسلطان، ويقيم العدل وينشر الأمن ويثبت دعائم الاستقرار الذي لم تنعم به البلاد منذ عشرات السنين. رأى سلطان في صباه والده المؤسس يفطن إلى أهمية الاستقرار، ودوره الحاسم في النهضة والبناء، وأدرك أن أرواح الناس حضراً وبدواً وأجانب ستظل عرضة للاعتداء، إذا لم يقض على عمليات النهب والسطو. فضرب بيد من حديد كل قوى الظلم فأخضع العصاة، وأمّن الخائف، فكان الاستقرار وكان الأمان، بعد أن مرت على الجزيرة مئات السنين والحكم فيها لمن غلب - غزو ونهب - لا أمن لضعيف ولا سلامة لأعزل. كتب جان بول بونيه (في مجلة Pary Match) عن مآثر الملك عبدالعزيز فقال: (خلف ابن سعود، الذي لقبه الإنكليز بنابليون الجزيرة العربية، مملكة شاسعة تعدل نصف مساحة أوروبا، وبلداً يُعد الثالث في العالم في إنتاج البترول، وكان في الوقت نفسه الزعيم المرموق في العالم العربي. نصف قرن من الجولات الخيالية.. ملحمة مدوية لم تخطر أعاجيبها أبداً في بال كتَّاب قصص الفروسية.. لقد استطاع ابن سعود في خضم القرن العشرين أن يفجر من غمار الرمال أمة جديدة) . رأى سلطان بن عبدالعزيز في صباه والده يسلك طريق الدعوة إلى الله ومناصرة الحق والعدل والذود عن العقيدة وتنقيتها من البدع والضلالات، ويتخذ من القرآن منهج حياة، ويرفع شعار التوحيد، ويحكم بين الناس بالكتاب والسنة، ويطبق شريعة الله الخالدة، ويخطو الخطوات الموفقة على ثوابت الإيمان والصلاح، فأسس هذه المملكة المباركة بعون الله وتوفيقه وقاد سفينتها إلى بر الأمان. رأى سلطان بن عبدالعزيز في صباه ما كان لتطبيق الشريعة الإسلامية من دور حاسم في القضاء على العابثين والمرجفين، وكيف كان حرص والده الملك عبدالعزيز على إقامة الحدود الشرعية بشكل صارم لوقف عمليات النهب والسلب والسرقة والسطو، وتأكيده القوي أن عهد الفوضى قد ولّى وآن الأوان أن ينعم سكان الجزيرة العربية بالأمن على أعراضهم وممتلكاتهم وحياتهم، والتزم - رحمه الله - منهجاً يهدف إلى إقامة مجتمع مسلم جديد يتعاون فيه الجميع على البر والتقوى وأن ينبذوا الإثم والعدوان، مجتمع تصان فيه الحرمات وتعلو فيه قيم المحافظة على مقاصد الشريعة الإسلامية التي تشدد على حفظ النفس والمال، والدين، والنسل، والعقل. وهكذا استطاع الملك عبدالعزيز من خلال تطبيق الشريعة الإسلامية استئصال الجريمة في المجتمع وضبط السلوك العام، وتأمين سبل الحج، وفرض هيبة القانون، وإقامة صروح العدالة، وحرصاً منه على دقة الأحكام وأن تتم وفق الشريعة الإسلامية أنشأ رئاسة القضاء، وربطها بديوان جلالته، لتدقق في العقوبات الشرعية المتعلقة بالحدود والتعزيرات وأحكام القطع والقتل، كما أمر بإنشاء المحكمة المستعجلة في عام 1346ه لتحقق سرعة البت في القضايا الجنائية. سياسة الباب المفتوح رأى سلطان بن عبدالعزيز في صباه وشبابه أيضاً والده يفتح قلبه وبابه لأبناء شعبه، لا يجعل بينهم وبينه حواجز، يعدل بينهم إذا حكم، ويحلم إذا غضب، ويعفو عفو القادر، يأخذ حق الضعيف من القوي، ويرحم الفقير والمسكين. لم يستبد برأي أو يتعالى على أحد، وضع نفسه كواحد منهم، بل خادما لهم، يتألم لآلامهم، ويفرح لأفراحهم وأعيادهم، ويسعد لقضاء حوائجهم، قصره هو قصر الأمة كلها، وكان جواداً كريماً ومعطاء حتى خشي وزراؤه ومستشاروه من أن تنفد خزائنه من شدة إنفاقه وعطائه كل من سأله حاجة. تقاسم مع أفراد شعبه كل شيء أكله وشرابه ومجالسه، أياديه بيضاء ممدودة لهم، يفك أسيراً ويرفع ظلماً، ويفرج كرباً، ويطعم جائعاً، ويكسو عارياً، ويمسح دموع أيتامهم، ويرعى الأرامل والأيتام ويعين الفقراء والمحتاجين، لا يرد سائلاً قط، ولا يقفل بابه في وجه طارق أبداً. وكان لتلك الشمائل العظيمة والصفات الكريمة أثرها البالغ في التمكين للملك عبدالعزيز في قلوب أفراد شعبه، بعد أن لامست أفعاله وأقواله مشاعر الناس وأحاسيسهم، فأحبوه بصدق، وأكبروه وأطاعوه، وكانوا جنده المخلصين الذين لو استعرض بهم البحر لخاضوا معه، وتعززت بذلك الثقة بين الحاكم والمحكوم. ورغم حكمته ورجاحة رأيه ومكانته من قومه إلا أنه لم يُعرف عن الملك عبدالعزيز أنه اتخذ قراراً دون مشورة، فقد عمل بمبدأ الشورى في بيته ومجالسه وأسلوب حكمه، وهو ما ورثه عنه أولاده من بعده، فكان شعاره في مجلس حكمه قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} سورة آل عمران (159)، وما أكثر ما سمعه أولاده كباراً وصغاراً ومنهم سلطان يقول: (التباعد بين الراعي والرعية يدع مجالا للنفعيين، فيحولون الحق باطلاً ويصورون الباطل حقاً، إذا لم تكن هنالك صلة بين ولاة الأمور والأهالي، فاختلاط الرعية مع الحاكم يقضي على أولئك النفعيين من جهة ويحل المشكلات من جهة ثانية، فليس بيننا وبين أحد حجاب، فالدين لا يأمر بالاعتزال والشرف لا يأمر بالابتعاد عن الناس). واتخذ الملك عبدالعزيز من سياسة الباب المفتوح منهجاً له في العلاقة بينه وبين أبناء شعبه حيث يستقبل في مجالسه كل مواطن ويستمع إلى كل إنسان ويناقش أمام الجميع بلا مواربة، وفي ذلك يقول: (أود أن يكون هذا الاتصال مباشرة وفي مجلسي لتحملوا إلينا مطالب شعبنا ورغباته وتحملوا إلى الشعب أعمالنا ونوايانا، إنني أود أن يكون اتصالي بالشعب وثيقاً دائماً؛ لأن هذا أدعى لتنفيذ رغبات الشعب، لذلك سيكون مجلسي مفتوحاً لحضور من يريد الحضور، أنا أود الاجتماع بكم دائماً لأكون على اتصال تام بمطالب شعبنا وهذه غايتي من وراء هذا الاتصال). وعندما كان سلطان بن عبدالعزيز في الخامسة أو السادسة أنشأ الملك عبدالعزيز عام 1345ه الموافق 1936م مجلساً للشورى ليكون همزة وصل بين الراعي والرعية والترجمان الصادق بين الحاكم والمحكوم، ومنحه صلاحيات واسعة من أهمها النظر في ميزانية دوائر الحكومة والبلديات والمرافق العامة، إصدار الرخص للمشاريع الاقتصادية والعمرانية، والامتيازات والمشاريع المالية والاقتصادية، وسن القوانين والأنظمة، وإقرار استخدام الموظفين الأجانب، والعقود مع الشركات والتجار لمستلزمات الحكومة، وتمييز الصكوك الصادرة من المحاكم. ومنحه ثقته التامة وخوله الحق في رفض المشاريع التي تعرضها الحكومة عليه، أو أن يعدل فيها، كما منحه الحرية في سن جميع القوانين بشرط ألا تكون مخالفة للشريعة الإسلامية. ومع ذلك فقد توسع الملك عبدالعزيز في فتح وسائل الالتقاء بالناس من كل فئاتهم بمن فيهم العلماء والوعاظ والأمراء والأعيان والشيوخ والجنود ورجال المدن والقرى، يناقش معهم كل قضايا البلاد علناً ويدفعهم إلى أن يقولوا آراءهم دون خوف من أحد، وشجعهم ليعلنوا مظالمهم ضده وضد أمرائه وممثليه إن كانت لهم مظالم، وخاطبهم بصراحته المعهودة: (لم أدعكم لأنني أخاف أحداً من الناس، فقد وقفت في الماضي القريب وحيداً لا سند ليّ غير الله سبحانه وتعالى، لم أخف من جيوش أعدائي؛ لأن الله قد منحني النصر، لقد دعوتكم هنا لأنني أخاف الله، وخوفي من الله هو الذي جعلني اتخذ هذه الخطوة، حتى لا أتهم بالغرور أو أقع في الخطأ.. وإذا كان لدى أي منكم شكوى ضدي، أو نقد أو أي شيء آخر فإن عليه أن يتقدم، وأعاهدكم عهد الله ألا أعاقب أحداً بقول رأيه، وإذا كان النقد معقولاً فإنني أعاهدكم أن أنفذه في الحال، تكلموا وقولوا ما في قلوبكم، وأنتم أيها العلماء تكلموا كما ستتكلمون يوم المشهد العظيم تكلموا دون خوف من أحد كبر أم صغر). وهذا (الورع) الذي تميز به الملك عبدالعزيز كان نتيجة أنه يرجع إلى الشرع الإسلامي الكتاب والسنة النبوية، ولم يلتفت إلى ما درج عليه غالب البلاد الإسلامية في عصره؛ من النظر إلى التجارب السياسية في الغرب، واعتبارها معياراً للصواب ونبراساً في العمل، وقد كان ذلك واضحاً في خطاب افتتاح الملك لمجلس الشورى عام 1349ه - 1930م، فقد ذكر الملك بكل صراحة ووضوح: (لقد أمرتُ ألا يُسنّ نظام في البلاد، ويجري العمل به، قبل أن يعرض على مجلسكم من قبل النيابة العامة، وتنقِّحوه بمنتهى حرية الرأي). ثم يقول: (الضرر كل الضرر في السير على غير الأساس الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم). في خدمة دينه وأمته ورأى سلطان بن عبدالعزيز في صباه وشبابه والده الملك المؤسس يتجاوز الأزمات والعواصف في الداخل والخارج وظروف الحرب العالمية الثانية، وما تبعها من تقشف وانتفاضات ودسائس ومؤامرات محلية وأجنبية، وضوائق مالية، وفترات عصيبة من القحط والمجاعة وانحباس المطر، فإنه - طيب الله ثراه - قد تغلب على هذه المصاعب بشجاعته تارة، وحسن تدبيره وحكمته تارة أخرى، وكان لشخصيته القوية وهمته العالية، وإرادته الحديدية التي لا تعرف المستحيلات والصعاب، الدور الأكبر في تخطي تلك العقبات، وتحقيق نهضة جبارة كانت مدهشة للعالم أجمع، فبعد أن تمكن من بسط الأمن والاستقرار، وتوحيد المملكة، وتطبيق الشريعة الإسلامية، وتوطيد علاقات الصداقة مع دول الجوار والعالم الخارجي، شرع الملك عبدالعزيز في برنامج إصلاحي وتنموي واسع في مختلف ضروب الحياة ومجالاتها المتعددة، كانت جهوده واضحة وبارزة في تحقيق نهضة جبارة، ونجاحات مذهلة تحققت في أزمان قياسية. لم يبحث الملك عبدالعزيز لاهثاً وراء الثروة، وإنما انشغل بتأسيس وطن كبير تحت شعار راية التوحيد والعمل بها.