المراد بالنارهنا؛ هو ما يطلق عليه لحوس النار، عند أهل الحجاز، أو ما يسمى البَشعة عند عرب الشام وشمال الجزيرة العربية، والبَشعة جزء من مكونات القضاء البدوي، ووسيلة من وسائل التحقيق مع أصحاب الجنايات المتعلقة بجرائم القتل أو الشرف أو السرقة، يجري اللجوء إليها عندما تنعدم البيِّنة وينكِِرالمتهم ارتكابه للجريمة. والبَشعة أو لحوس النارتتم باستعمال قطعة رقيقة من الحديد تشبه السكين الصغيرة بعد أن تحمَى على النار إلى درجة معينة، ثم تمَرَّرُ بخفة ومهارة على لسان المتهم. ولا يقوم بذلك إلا شخص متخصص وماهر في إجراء هذه العملية، وتعرف براءة الجاني أو تورطه من خلال ما تتركه تلك الآلة على لسان المتهم من أثر معين يعرفه صاحب هذه المهنة. وهكذا، فإن لحوس النار وسيلة من وسائل التحقيق والضغط النفسي والحسي على المتهم.. ومع أن هناك تفسيرات كثيرة لكيفية عمل هذه الوسيلة وفعاليتها في الحصول على النتيجة المطلوبة مثل القول بأن الجاني أثناء التحقيق معه يجف ريقه مما يجعل هذه الآلة الساخنة تقع على لسان جاف فتؤثر فيه، بخلاف البريء، أو غير ذلك من التأويلات؛ إلا أنه لا يمكن الجزم بصحة تلك التخرصات. لكن الذي يلزم الإشارة إليه أن تلك الآلة لا تترك أثراً ضاراً أو مستديماً على لسان المتهم سواء كان بريئاً أو مجرماً، وإنما تعطي نتيجة سريعة دون أن تتسبب في الإضرار بالمتهم، وهذا بخلاف ما يعتقده كثير ممن يجهلون هذه العملية. وكانت هذه الوسيلة تمارس بشكل أساسي لدى قبائل حرب في منطقة المدينةالمنورة، كما يستفاد من المصادر التاريخية والوثائق المحلية، حيث نصت وثائق كثيرة على تطبيق « لحوس النار» على الجناة.كما أشار إليها كثير من المؤرخين الذين تعرضوا لتاريخ بادية المدينةالمنورة، وعلى رأسهم أيوب صبري باشا في كتابه (مرأة جزيرة العرب). كما أشار إليها المستشرق جاكوب هيس في كتابه: (بدو وسط الجزيرة)، ترجمة: محمود كيبو، فقد أشار هيس إلى ابن عَمَّار بوصفه أشهر من عرف بمزاولة هذه الطريقة، فقال عنه في ص63من كتابه المذكور: «ابن عمار بدوي من قبيلة حرب في المدينة يذهب إليه بدو عتيبة ومطير وحرب وشمر، وهو يتولى هذا المنصب بالوراثة.» كما سجل الشعر الشعبي في الحجاز ونجد حضوراً كبيراً لنار ابن عَمَّار وصاحبه، يضيق المجال عن استعراضه هنا، وإن كان الأخ الباحث قاسم الروَيْس مشكوراً قد أورد أمثلة جيدة منه في أحد مقالاته. وذكر لي أحد كبار السن أنه سأل أحد مشايخ الحرم عن حكم هذه الممارسة، فأفتى بجوازها إذا خلت من السحر والاعتقادات المحظورة، وثبتت فائدتها في كشف الجريمة، ولم يكن لها أضرار جسدية أو نفسية على المتهم. أما ابن عمار صاحب النار، فهو رجل من الصواعد، من عوف من حرب توارث هذه المهنة عن آبائه وأجداده الذين اشتهروا بها. وقد وردت أسماء عدد من جدود هذه الأسرة وأعيانها الذين زاولوا لحوس النار، والذين عُرِف الواحد منهم ب: المُلْحس ومن أولئك عواد بن عمَار الذي ورد اسمه شاهداً في وثيقة محلية مؤرخة في (18-1-1241ه). ومنهم أيضا عتيق بن عمَار المٌلِْحس الذي ورد اسمه قاضياً في وثيقة إنهاء دعوى بعد أن أجرى لحوس النار على المتهم، بتاريخ (29-7-1294ه). وقد جاء فيها ما نصه: «الحمد لله وحده، تاريخ يوم 29 والخميس في رجب سنة 1294ه، لقد حضروا عندنا وعلى يدينا (حامد بن محمد) و(سليم بن سليمان بن فاضل)، و(وفضل بن عيد)، وحضره لحضورهم (أحمد بن حامد) وولده (محمد بن أحمد)، وبعد حضور الجميع تخالصوا على يدينا، ولحس (محمد بن أحمد) عنه وعن خمسته، وصار سالم، لا يبقى عليه لرجال (الوديان) لا دعوى ولا طلب ولاحق ولا سبب في رقبة (فاضل)، بشهادة حضور الحال: (محمد بن عوَيِّد الملحس) وبشهادة (حسن بن حسين بن باجان) وبشهادة (واهس بن عواد الصبحي) و(صالح بن عطية) و(على بن مسفر) (الصبوح)، وكتب وشهد (سليمان بن سالم الصبحي)، والله ورسوله خير الشاهدين.. ختم: (الصبحي). وحكم بصحة ذلك (عتيق بن عمار الملْحس).. وختم: (واهس بن عواد). ختم (عتيق بن عواد مُُلْحِس)». أقول: وعتيق الوارد في هذه الوثيقة من أشهر أعلام هذه الأسرة، ولا زال أحفاده المعروفون ببيت الملْحِس من البيوت المعروفة في المدينة، ومن أعلامهم الحاليين الوجيه المعروف في المدينة الشيخ عبد العزيز بن عيد بن علي بن عتيق بن عواد بن عمَّار الملْحِس، وهو صاحب مجلس يومي مفتوح يرتاده عدد كبير من رجال العلم والأدب الفضلاء.