سأعطي المزيد من الأمثلة عن أسس القراءة الجديدة للمرويات العربية القديمة. خذوا مثلاً، ما كتبه ابن حجر العسقلاني في روايته لتاريخ الشعر الجاهلي. برأيه أن الشعر الديني في الجزيرة العربية، بدأ في أشكاله الأولى، كتعبير عن علاقة العربي بالصحراء، وأن العصر الأسطوري الذي بزغ فيه فجر الشعر يبدأ مع أجداد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأَنَّ أَوَّل مَنْ حَدَا الْإِبِل (عَبْد لِمُضَرَ بْن نِزَار بْن مَعْد بْن عَدْنَان، كَانَ فِي إِبِل لِمُضَرَ فَقَصَّرَ، فَضَرَبَهُ مُضَر عَلَى يَده فَأَوْجَعَهُ، فَقَالَ: يَا يَدَاهُ يَا يَدَاهُ، وَكَانَ حَسَن الصَّوْت فَأَسْرَعَتْ الْإِبِل لَمَّا سَمِعَتْهُ فِي السَّيْر، فَكَانَ ذَلِكَ مَبْدَأ الْحُدَاء، وَيَلْتَحِق بِالْحُدَاءِ هُنَا الْحَجِيج الْمُشْتَمِل عَلَى التَّشَوُّق إلى الْحَجّ بِذِكْرِ الْكَعْبَة وَغَيْرهَا مِنْ الْمَشَاهِد، وَنَظِيره مَا يُحَرِّض أَهْل الْجِهَاد عَلَى الْقِتَال، وَمِنْهُ غِنَاء الْمَرْأَة لِتَسْكِينِ الْوَلَد فِي الْمَهْد). إن أسطورة ولادة الشعر العربي من رحم حداء الإبل، تعيد وضعه في إطار تطوره التاريخي كغناء ديني، ولكن هذه المرة بإعادة ربطه بالإسلام (حين كان أجداد النبي - صلى الله عليه وسلم - يسيرون في الصحراء). ويبدو أن هذه الولادة الأسطورية للشعر كما تخيلها المسلمون، هدفت إلى تمهيد السبيل أمام المحاولات المبكرة، لتصحيح النظرة إلى الشعر والشعراء، بعدما تبدى أمام المسلمين أن هذه النظرة قد تترك أثراً سلبياً. ومع ذلك، من المحتمل أن الهدف المباشر كان الكشف عن هذا الجانب من عمل المفسرين والمؤرخين في الإسلام المبكر، لتصحيح نظرات شائعة إلى الشعر الجاهلي بشكل خاص، خصوصاً بعد نزول سورة الشعراء.. وقَوْله تَعَالَى: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعهُمْ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ}.. ولذلك - وفي سياق هذا العمل التصحيحي - قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَة: الْمُرَاد بِالشُّعَرَاءِ شُعَرَاء الْمُشْرِكِينَ، يَتَّبِعهُمْ غُوَاة النَّاس وَمَرَدَة الشَّيَاطِين وَعُصَاة الْجِنّ وَيَرْوُونَ شِعْرهمْ؛ لِأَنَّ الْغَاوِي لَا يَتَّبِع إِلَّا غَاوِيًا مِثْله، وَسَمَّى الثَّعْلَبِيّ مِنْهُمْ عَبْد اللَّه بْن الزِّبَعْرَى وَهُبَيْرَة بْن أَبِي وَهْب وَمُسَافِع وأُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي شَاعِرَيْنِ تَهَاجَيَا فَكَانَ مَعَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا جَمَاعَة وَهُمْ الْغُوَاة السُّفَهَاء، وأخرج الْبُخَارِيّ فِي «الْأَدَب الْمُفْرَد» وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيق يَزِيد النَّحْوِيّ عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعهُمْ الْغَاوُونَ - إلى قَوْله - مَا لَا يَفْعَلُونَ) قَالَ فَنُسِخَ مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَثْنَى فَقَالَ: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) إلى آخر السُّورَة، وأخرج اِبْن أَبِي شَيْبَة - مِنْ طَرِيق مُرْسَلَة - قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعهُمْ الْغَاوُونَ) جَاءَ عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة وَحَسَّان بْن ثَابِت وَكَعْب بْن مَالِك وَهُمْ يَبْكُونَ فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّه أَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة وَهُوَ يَعْلَم أَنَّا شُعَرَاء؟ فَقَالَ اِقْرَءُوا مَا بَعْدهَا {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} (أَنْتُمْ) {وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} (أَنْتُمْ). بيد أن تصحيح النظرات الخاطئة للشعر الجاهلي، كان يتبدى في بعض صوره، كما لو كان محاولة لتقسيم الشعر تقسيماً تعسفياً، وأنه كان في بعض الحالات موظفاً لأغراض البرهنة على أن المقصود بالمباح من الشعر (الشعر الديني). وهذا ما يمكن فهمه من رأي ابن حجر (وَاَلَّذِي يَتَحَصَّل مِنْ كَلَام الْعُلَمَاء فِي حَدّ الشِّعْر الْجَائِز أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكْثُر مِنْهُ فِي الْمَسْجِد، وَخَلَا عَنْ هَجْو، وَعَنْ الْإِغْرَاق فِي الْمَدْح وَالْكَذِب الْمَحْض، وَالتَّغَزُّل بِمُعَيَّنٍ لَا يَحِلّ). ولشرح فكرته هذه يستدل ابن حجر برأي ابن عبد البر: وَقَدْ نَقَلَ اِبْن عَبْد الْبَرّ الْإِجْمَاع عَلَى (جَوَازه إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَقَالَ: مَا أُنْشِدَ بِحَضْرَةِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ اُسْتَنْشَدَهُ وَلَمْ يُنْكِرهُ).. ويضيف ابن حجر معلقاً (قُلْت: وَقَدْ جَمَعَ اِبْن سَيِّد النَّاس شَيْخ شُيُوخنَا مُجَلَّدًا فِي أسماء مَنْ نُقِلَ عَنْهُ مِنْ الصَّحَابَة شَيْء مِنْ شِعْر مُتَعَلِّق بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - خَاصَّة، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْبَاب خَمْسَة أَحَادِيث دَالَّة عَلَى الْجَوَاز، وَبَعْضهَا مُفَصِّل لِما يُكْرَه مِمَّا لَا يُكْرَه، وَتَرْجَمَ فِي «الْأَدَب الْمُفْرَد» مَا يُكْرَه مِنْ الشِّعْر وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيث عَائِشَة مَرْفُوعًا - إِنَّ أَعْظَم النَّاس فِرْيَة الشَّاعِر يَهْجُو الْقَبِيلَة بِأَسْرِهَا -).