خلف التيسير الكمي بالأسواق العالمية حجم سيولة مخيف كانت مبرراته التغلب على الأزمة المالية العالمية لكنه بنفس الوقت أوجد فوضى بأسواق السلع نتيجة حجم المضاربات الذي رفع أسعارها بشكل كبير خلال فترات قصيرة فمحركو الأسواق يرون أن حجم الإنفاق من الحكومات على اقتصاداتها سيولد طلبا كبيرا مما أدى إلى توجيه وتركيز عمل صناديقها في أسواق السلع سعيا لتحقيق مكاسب مضمونة. قد يبدو كل ذلك ذكاء ونجاحا كبيرا لخطط تلك الصناديق الكبيرة بحجم سيولتها فهي تذهب إلى المكان الدافئ للعمل لكن هذه المضاربات أوجدت حالة من عدم الاستقرار بالأسواق والاقتصاديات الناشئة بأسعار السلع التي بدأت تأكل الكثير من مواردها وتقلص الفجوة الإيجابية للميزان التجاري لتلك الدول. ففي الوقت الذي تعيش تلك الدول من الاقتصادات الناشئة مرحلة ازدهار اقتصادي ويطلب منها أن تلعب دورا بالإنفاق على البنى التحتية وتحفيز خطط الإنفاق لتطوير اقتصادياتها من جهة والمساهمة الفاعلة بعودة النمو للاقتصاد العالمي مساعدة لتلك الدول العظمى والتي كانت منبع الأزمة المالية العالمية فإن آثار المضاربة على السلع يظهر بشكل بالغ فيها فهي تستورد الكثير من السلع لكي توفرها في أسواقها نتيجة إنفاقها العام وتربح الدول العظمى من ذلك تشغيل مصانعها بطاقاتها القصوى بينما تتولى صناديق التحوط التي تمتلكها مؤسسات مالية تتبع الدول الكبرى مهمة رفع الأسعار من خلال جوقة المضاربات الملتهبة. فالدول الكبرى لديها طاقات إنتاجية هائلة تغطي فيها حاجة أسواقها وتبيع الفائض للخارج وبينما تعمل على معالجة الخلل بميزانياتها تترك للدول الناشئة حرية الاستحواذ على أكبر قدر من فائض الإنتاج العالمي فتلك الدول العظمى لا تعاني نقصا كبيرا في بناها التحتية وبالتالي الطلب لديها يبقى في حدود معقولة لا تؤثر على الأسعار إجمالا بل لديها فائض بالعقارات والسلع ولا تستهلك الكثير من إنفاقها العام على صعيد حتى المستهلكين الأفراد من المواد والسلع الغذائية فأميركا تنفق أقل من عشرة بالمائة على الغذاء بينما تفوقها بعدة أضعاف اقتصادات الصين والهند وغيرها. إن هذا الاستنزاف المالي الكبير من وراء المضاربات أوجد دول الاقتصادات الناشئة أمام مواجهة رفع الأجور بشكل كبير ومتسارع لمواجهة الغلاء العالمي وهذا بدوره سيوجد تلك الدول في دوامة ارتفاع التكاليف على المدى المتوسط والبعيد مما يضعف من دور منافستها لاقتصادات العالم المتقدم بارتفاع تكاليف السلع المنتجة لديها مما يعني توقف دورة النمو الاقتصادي في لحظة ما نتيجة ارتفاع التضخم بشكل كبير لديها يولد فقاعة لا تستطيع تحملها مما يؤدي إلى دخولها في دورة ركود قد تكون طويلة ومؤلمة لتعود دفة قيادة النمو والتحكم باقتصاديات تلك الدول إلى الضفة الغربية من العالم مجددا بعد تجاوز المراحل الصعبة من الأزمة المالية التي تعيشها الآن. وسيفقد ارتفاع معدل التضخم الناتج عن مضاربات واسعة النطاق قدرة الدول الناشئة وتحديدا الصين والهند والبرازيل وروسيا القدرة على التوسع الاستثماري الخارجي وخصوصا في قارة إفريقيا التي تعد منطقة الازدهار العالمي القادم وملعبا خصبا لدعم اقتصاديات العالم وخصوصا المتقدم بخلاف ما ستتركه آثار التضخم من جروح عميقة لن يكون علاجها سهلا على الدول الناشئة وسيمتد لسنوات طويلة. تلعب المضاربات دورا بارزا في إذكاء التضخم عالميا والفاتورة ستكون مرتفعة يوما بعد يوم على الدول ذات الاقتصادات النامية بقوة وإذا كان من عمل لابد من القيام به فهو تحركها باتجاه سن قوانين دولية تحد من تلك المضاربات وتقلل من أثرها الكارثي على العالم بعيدا عن الأدوات التقليدية لكبح جماح التضخم فأهمية الضخ النقدي الدولي يجب أن تنصب في تنمية الإنتاج العالمي والنهوض بالاقتصاد العالمي من كبوته وليس في توفير الأجواء للربح السريع عبر مضاربات لا تخلف سوى الدمار الاقتصادي وتضع بنفس الوقت مليار إنسان على حافة الجوع لكي تبقى دول أهل المجاعة لقمة سائغة لبلعها متى ما رأت الدول الكبرى الوقت سانحا بينما لا يبقى للدول الناشئة إلا معالجة مشاكلها الاقتصادية التي سيخلفها التضخم لتفويت الفرصة عليها بأن تصبح دولا اقتصادية عظمى.