حياةٌ حافلةٌ بالعطاء الأدبي التاريخي الجغرافي الإعلامي.. ثلاثة وتسعون عاماً بدأت من «المَلْقَا» في الدرعية، وانتهت في الرياض، قريباً من الدرعية، إنها حياة الأديب الكبير الشيخ عبدالله بن محمد بن خميس -رحمه الله- التي انتهت رحلتها الدنيوية في يوم الأربعاء الخامس عشر من جمادى الآخرة من عام 1432ه، حيث أصبح اسمه مقروناً بدعوة «يرحمه الله» بعد أن كان يقرن بدعوة «يحفظه الله»، وحيث أصبح في التصنيف المكتبي وهو رجل ذو إنتاج أدبي تاريخي جغرافي صحفي غزير، يندرج تحت عنوان: «شعراء سعوديون» أو «مؤرخون سعوديون»، ولد عام 1339ه - وتوفي عام 1432ه. حينما تلقيتُ خبر وفاته -رحمه الله- توقفت أمام شريط من الذكريات، بدأ منذ أوَّل سنة التحقت فيها بكلية اللغة العربية في الرياض عام 1393ه، حيث كنت قد وضعت في جدول زياراتي عدداً من الأسماء اللامعة في مجال العلم والدعوة والأدب والتربية والصحافة، تعرفت عليها من خلال قراءاتي المتواصلة في مكتبة المعهد العلمي بالباحة، ومن خلال ما حدثني به أساتذتي في المعهد من أحاديث تلك الشخصيات وأخبارها، وكان في مقدمة الأسماء الأدبية الشيخ عبدالله بن خميس -رحمه الله. من ذلك الوقت بدأ شريط الذكريات يعرض أمامي صوراً كثيرة لهذا الأديب الكبير صوتاً وصورة، ومقالات وقصائد ومؤلفات متنوِّعة. شريط لا مناص من تأمُّله حينما تعرضه الذاكرة في اللحظة التي نسمع فيها بوفاة من نعرف ونحب ونقدِّر. أجريت لقاءً تلفازياً في برنامج كنت أعدُّه وأقدِّمه من التلفاز السعودي اسمه «آفاق ثقافية» مع الأديب الراحل عبدالله بن خميس في منزله المعروف في الرياض، وكنت أتأمل معه في مكتبه عشرات الدروع التي أهديت له في مناسبات متعددة، واستمع إلى حديث شجي عن بعض المناسبات العلمية والأدبية واللغوية والتاريخية التي حضرها ونسي تواريخها لولا أنها منقوشة في تلك الدروع والهدايا. وكان حديثي معه عن الشعر العربي الفصيح، والشعر النبطي أو العامي أو الشعبي، وما بينهما من الفوارق اللغوية والنحوية، ومن التشابه في المواقف والأحداث والأشخاص التي كان الشعر يصورها ويتحدث عنها، ويذكِّر الناس بها. وبالرغم من بعض ما حدث من اختلاف في الرأي في هذه المسألة، خاصة فيما يتعلق بما يقال من أن الشعر العامي سليل للشعر العربي الفصيح، إلا أن لقائي بالشيخ عبدالله بن خميس -رحمه الله- كان من أمتع اللقاءات وأثراها، وأكثرها دقة وطرافة وهدوءاً في النقاش. إن الأديب الشاعر الراحل عبدالله بن خميس ذو شخصية أدبية عريقة، وصاحب معلومات تاريخية غنية، وهو -مع ذلك- يتميز بنكهة خاصة في تعامله مع نصوص الشعر العربي، وطريقة إلقائه له، وما زلت أذكر سروره الكبير حينما بدأت لقائي معه ببيتين من الشعر حفظتهما من قصيدته التي عارض فيها ابن زيدون في نونيَّته، حيث قلت له: بعد السلام عليك أقول لك: أبا الوليد أعر نجواي مصغيةً لطالما سمعت نجوى المجّينا القوم بعدك عَقُّوا الشعرَ واتخذوا بعد الجياد الكريمات البراذينا فطرب لمَّا سمع البيتين، وكانت مفتاحاً جميلاً للقاء معه استمر حوالي ساعتين، كان نصيب التسجيل التلفازي منها نصف ساعة، والباقي لحديث أدبي جميل، لم أفقد صداه العميق في نفسي. من «المَلْقا» بدأت رحلة ابن خميس وبين النخيل مع والده ترعرعتْ وإلى عالم الكتب الرائع انتقلت، لتصبح علاقة عريقة نقلتْ شاعرنا من المزارع المزدحمة بنخيلها ونباتها، إلى المزارع المزدحمة بكتبها وصحفها، ومؤلفاتها المتنوعة. من أوَّل ما قرأت لابن خميس كتاب «المجاز بين اليمامة والحجاز» ثم تنقلت بعد ذلك بين كتبه وأعماله الأدبية ودواوينه، وهي موزعة بين فنون كثيرة، كالتاريخ، والجغرافيا والأدب «شعراً ونثراً»، وإنها لقراءة نافعة، تمنح القارئ قدراً كبيراً من المعلومات، وتحمله على مركب أنيق من الأسلوب العربي المتين. رحم الله الأديب الراحل «عبدالله بن خميس» وأحسن عزاء أهله وذويه وعزاء الساحة العلمية في المملكة العربية السعودية التي احتضنت هذا الأديب وأدبه، كما احتضن ثراها الآن جسده بعد أن ودَّع هذه الحياة، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}. إشارة: لا تجزعي، أمر الإلهِ مقدَّر ما قدَّم الرحمن لا يتأخَّرُ