أثناء دراستنا في جامعة الملك سعود، كنّا نعاني من صلف بعض أعضاء هيئة التدريس، أي الدكاترة، فقد كانوا يتعاملون بفوقية وثقة لا حد لها، بل إن بعضهم يسخِّر الطلاب لخدمته، ويضطر البعض آنذاك أن يرمي كرامته في مواقف الجامعة، كي يجتاز مادة ما، ولا يتأخر تخرجه فصلاً أو فصلين، ولم نفهم آنذاك لماذا يعاملوننا هكذا، ويهدرون كرامتنا إلى هذا الحد، حتى أصبح كل واحد منهم أشبه بديكتاتور صغير (يمسح بنا البلاط دون أن نعترض!)، فظهر جيل مهزوز ومهدور الكرامة!. وحتى مساء السبت الماضي لم يخطر في بالي سؤال غريب ومحذور، كالسؤال عمّن يملك قرار فصل أستاذ جامعي غير منتج من جامعته، حيث عرفت من النقاش الذي دار خلال ندوة مدير جامعة الملك سعود الدكتور عبدالله العثمان، والذي تشرفنا بلقائه في جريدة الجزيرة، لذا سأضع السؤال أمامك عزيزي القارئ، فمن يمتلك قرار فصل الأستاذ الجامعي؟ هل هو رئيس القسم؟ الإجابة: لا. هل هو عميد الكلية؟. الإجابة أيضاً: لا. هل هو معالي مدير الجامعة بجلال قدره؟. (خير يا طير وإذا صار معالي، أيضاً هو ما يقدر يفصل الدكتور الدكتاتور). إذن من سيفصل هذا الدكتاتور إذا كان مهملاً أو مستبداً؟ هل هم الطلاب المساكين؟ بعد أن يورطهم طالب مشاغب، فيظهروا في ردهات الجامعة: الطالب يريد إسقاط الدكتور!. كل هذا للأسف لا يوقف استبداد الدكتور واستهتاره، فالقرار يجب أن يصدر من مجلس الوزراء... نعم مجلس الوزراء وليس مجلس الجامعة... يا ساتر! (عشان كذا كانوا يسوموننا السخرية والإهانة والرسوب دونما خوف، ويا ويلك لو تطالب بمراجعة تصحيح ورقة الامتحان... ما هذا التجديف يا طالب يا متخلّف؟ أتشكك بالدكتور؟). لقد كنت أحترم هذا الرجل من بعيد، وبعد أن جلس معنا قرابة ساعتين يبث فينا روح التفاؤل والأمل، ويعيد لنا الثقة بالتعليم العالي في المملكة عبر تحولاته الهائلة، ونماذجه المحترمة من أمريكا وكندا، وقبلهما نموذج كوريا الجنوبية، والقفز بعدد الجامعات، وأرقام المبتعثين، وأوراق العمل وبراءات الاختراع وفكرة الأوقاف، أدركت أننا أمام عقلية فذّة، جعلتني أقول لنفسي وهو يتحدث (يا شيخ وينك من زمان؟). فأن تتحول الجامعة الرائدة، جامعة الملك سعود، في عام 2030 إلى جامعة مستقلة مالياً تماماً، كجامعة هارفرد الشهيرة، ولا تعود تنتظر دعم الحكومة، وتصرف ببذخ على البحث العلمي، والأوراق العلمية، وبراءات الاختراع، وتتحوّل من مدرسة ثانوية كبيرة، إلى جامعة رائدة في العلم والابتكار، وتخلق للوطن مورداً مذهلاً بخلاف النفط، مورداً جعل كوريا الجنوبية في مصاف دول العالم الأول، وهو المعرفة، خلق المعرفة وتشجيع الابتكارات، وتوظيف براءات الاختراع في البلد، أو ما نسبته 10% منها على الأكثر، في إنشاء الشركات التي تقوم بالتصنيع والتصدير، هو أمر سينجزه هذا الرجل، إذا بقي في مكانه، أو إذا تم تقنين إستراتيجية الجامعة وأهدافها طويلة المدى، وجعلها في مقام الدستور، الذي يجب أن يواصل إنجازه من يأتي بعده، وألا يعيدها إلى عصرها البائد، حينما كانت ثانوية كبيرة، تعج بطلاب محبطين ينتظرون وثيقة التخرج، وأساتذة لا يقلّون إحباطاً، دورهم يقتصر على التدريس فحسب، دون أن يلتحقوا بدورات أو مؤتمرات علمية تنشِّط الذاكرة المعلوماتية لكل منهم. فالجامعة هي مصدر ثروات البلاد، لأنها تنتج المعرفة، وتهيئ الفرص للمبدعين والمخترعين، وتدعم أبحاثهم وأفكارهم، أليس الاختراع هو مجرّد مخيّلة مجنونة متمرّدة؟ فكرة لا يقبلها العقل؟ هكذا أشعر بأحلام الدكتور العثمان وهي تحمل تمرّداً إيجابياً على السكون والرتابة. فكم نحن بحاجة إلى عشرات المبدعين مثله!.