من العسير جدا لدى أستاذنا عبدالفتاح أبو مدين أن يقرأ: «ذالك»، و «الوسطا» و«مضا» ، لأن ألف ما جرى عليه الكُتَّاب من الرسم هكذا: ذلك، والوسطى، ومضى. قال أبو عبدالرحمن: أسلفت باستفاضة الكلام عن المألوف، وأن رسم النحوي تابع لرسم عامة القُرَّاء، وأن العِلْمَ الأوَّلَ بالخط والهجاء كتابةً وقراءة أعْطى كلَّ حرف صورته كما ينطق، وأن هذا واقع واضح، وأن التعقيد والعناء في مخالفة واقع الخط بتأصيل معقّد مُتشعب، وأن من استوعب القواعد المعقدة المتشعبة مثل أستاذنا عبدالفتاح سيكون تحلله منها أسهل، وسيكون تعليم الناشئة رسماً يوافق حقيقةَ الخط وَفْق النطق: أيَسْر وأسهل.. وبعد هذا فما المسوغ المعتبر لجحد الذال من «ذالك» حقها من المد، وأي جمال في هذا الإسقاط؟.. وأي عسر في فهم الرسم لفعل مضا، وكلمة الوُسْطا والرسم بالألف في الكلمتين موافق للنطق ولصورة الحرف وهو ألف المد؟.. ألا ينبغي له أن يرى بأن العكس هو الصحيح، لأن في الوسطى ومضى تغييراً لصورة الحرف، وإلباساً، وإقحاماً لعلم النحو في رسمٍ أُريدَ رمزُ مدلوله لكل القُراء الذين حذقوا حروف الهجاء برسمها كما تنطق؟!. وقال الأستاذ : «أذكر أنني قرأت حين كنت أُدرس النحو: أيام الصغر قولَ واضعي كتب النحو: تعتبر )1( الياء ألفاً ولو كتبت في صورة ياء، لأن العبرة بلفظ الكلمة لا بكتابتها»!!. قال أبو عبدالرحمن: لو قال النحاة ذلك لكان هذا القول مُنْتهى الدعوى العارية، والتناقض.. أما الدعوى فهو الزعم بأن الياء تُعَدُّ ألفاً ولو كتبت في صورة ياء، فهو دعوى لم تُصحب ببرهان.. وهذه الدعوى تقابل بدعاوي أكثر، فيقال: الواو ياء ولو كتبت بصورة الواو، والألف ياء ولو كتبت بصورة الألف، والعين دال ولو كتبت بصورة الدال؟!!.. وهذا إلغاء لهويات الحروف في الخط العربي بالدعوى العارية.. وأما التناقض ففي القول: بأن العبرة بلفظ الكلمة لا بكتابتها. قال أبو عبدالرحمن: هل للكلمة صيغة نُطْقٍ تخالف الدلالة الخطية لصورة الحرف من حروف الهجاء، حتى يقال العبرة باللفظ لا بالكتابة؟.. إن اللفظ إذا قُرن بالكتابة اقتضى مطابقة النطق للرسم، ولا يُتَصوّر لفظ لا عبرة بكتابته!!.. وإنما المتصور وجود لفظ من غير قراءة في مكتوب، ومن غير إملاء على كاتب.. والكلام البريء من الإحالة والتناقض: أن يقال: العبرة بخط يدل على اللفظ، والعبرة بلفظ تدل عليه الكتابةُ، والعبرة بكتابة الشيء كما ينطق، والعبرة بالنطق بالشيء كما يكتب.. إن النطق الدال هو ما عبر عن مراد صاحبه باللسان، وإن الرسم الدال هو ما عبر عن مراد صاحبه بالخط، فما دام النطق والخط بيانين للمراد: فلا بد من مطابقة النطق للخط، ومطابقة الخط للنطق، لأنهما بيانان لمراد واحد. ولا أعرف لدعوى: «أن العبرة بلفظ الكلمة لا بكتابتها» وجها إلا أن يكون المعنى: إذا كتبت «سعا» على الياء هكذا «سعى» فالعبرة بنطقها بالألف لا بكتابتها على الياء.. فإذا كان هذا هو المعنى الذي لا يقال غيره: فالحجة عليهم لا لهم، لأن دليلي على النطق المطابق للرسم أن أجد الحرف على صورته، فأرد غير المعتبر )وهو الكتابة على الياء(، وأبقي الموافق المعتبر وهو الألف.. ولا سيما أن ذلك هو الأصل في الخط. قال أبو عبدالرحمن: هذا تخريج لما أورده الأستاذ عبدالفتاح مسندا إلى كتب النحو.. أما التأصيل الذي أعقله عنهم فهو أنهم قالوا: الواو تنقلب إلى ألف مثل دعو تكون دعا، بدليل أنك إذا تحدثت بالفعل الماضي قلت: دعوت.. لا دعيت.. وتقول: دعوة.. لا دعية، فتكتب دعا إذن على الألف. وقالوا: الياء تنقلب إلى ألف في مثل سعي تكون «سعا»، بدليل أنك إذا تحدثت بالماضي قلت: سعيت.. لا سعوت.. وتقول: سعياً لا سعواً، فتكتب على ياء غير منقوطة، ليعلم أن أصلها ياء، وأنها تنطق بالألف، لأنها غير منقوطة. وما جاء على الوجهين فيجوز فيه الوجهان مثل محا محوا، ومحى محياً. ثم قال أهل الرسم الإملائي وبعض النحاة الذين أدخلوا فن الرسم في كتبهم: العبرة بالنطق، فيكتب الحرف كما ينطق به إلا ما استُثْني ككتابة دعا للدلالة على الأصل الواوي، وسعى للدلالة على الأصل اليائي. والجواب عن هذا: أن يقال: وُفِّقْتم وهُدِيْتُمْ، إذ جعلتم العبرة بالنطق.. وهذا يعني رسم الحرف كما ينطق. ثم يُقال ثانية: بَعُدْتم عن الإصابة، إذْ رسمتم اليائيَّ على الياء غير المنقوطة مع علمكم بأن النطق بالألف ، لتدلوا على أن الأصل يائي.. وبرهان هذا البعدِ عن الإصابة من أمور: أولها: أن العبرة نطقا وكتابة بالحرف بعد إبداله واستقراره على البدل، فإذا كانت دعوَ مماتة، وأن المستقر دعا بالألف، فلا عبرة بالواو لا رسماً ولا نطقاً، ولهذا رسمتموها كما تنطق.. وإذا كانت سعَيَ مماتة، وأن المستقر سعا، فلا عبرة بالياء لا رسماً ولا نطقاً، فلماذا فرقتم بين النطق والرسم، فكتبتموها بالياء وهي تنطق ألفاً، وقلتم لا عبرة بالكتابة بالياء، بل العبرة بالنطق بالألف.. فكيف ننطق بخلاف الرسم.. مع أن الرسم والنطق كليهما دلالة لغوية على المراد.. إلا أننا نفهم الرسم بوساطة البصر، ونفهم النطق بوساطة السمع؟! وثانيها: إذا رأيتُ الرسمَ بالألف «سعا» ودعا: فلا يلزم من ذلك أن أكتب المضارع سعوت ودعوت، ولاأن أكتب سَعْواً ودعوة.. بل يرسم لي معلمي وأنا في الهجاء المضارع والمصدر كما ينطقان حسب علمه بالنحو، فيكتب لي سعيت سعياً، ودعوت دعوة.. فإذا حذقتُ مبادئ علم النحو، وتدربتُ على مراجعة المعجم العربي وهما أمران لابد منهما لتعليم كل مسلم : فَرَّقتُ بين اختلافِ نطقِ ما ماضيه ألف ومضارعهُ ومصدرهُ بالواو أو الياء. وذلك وفق القواعد التي قررها النحاة، ووفق استقرائهم للغة العرب، ووفق مراجعتي للمعجم العربي للتَّأكُّد من صحة استقراء النحاة. وثالثها: من حق النحوي أن يرمز بالياء غير المنقوطة للدلالة على أن الأصل يائي برسم الياء، وللدلالة على أن النطق بالألف لعدم نقط الياء.. إلا أن هذا الحق مشروط بأن لا ينافي علماً عاماً للنحوي وغيره، وهو الرسم الإملائي الموضوع لعامة القراء، لأنه سيُحدِث لبساً لمن هو غير نحوي، ويحدث لبساً لمن قرأ النحو ثم نسي القاعدة، ويحدث لبساً بسبب ماجرى عليه المعاصرون من إهمال نقط الياء الأصلية التي تنطق ياء، ولأن المثقفين عامة يحتاجون إلى مراجة نحوية ولغوية لمعرفة اليائي والواوي، فيتأخرون في تدوين معارفهم وأفكارهم المنثالة التي قد تَضِلُّ عنهم حين المراجعة، فهذا تعسير لا تيسير. وختم أستاذنا عبدالفتاح كلمته عن الرسم بتكرار ما هو فيه من استغراب لمنهجي، وحكم عليه بالعسر، فقال حفظه الله مع شيء من المداعبة)2( لو كان من غيره لما أعرفه من فضله لكان سخريةً: «إنني لا أزعم أنني أزاحم شيخنا في الفقه اللغوي بعامةغير أنني أنشد اليسر الذي لا يعسر لغتنا.. غير أن الشيخ جنح إلى العسر كما يتبادر إلى ذهني، وإلى أمثالي الذين لم يرق لهم توجُّه الشيخ ابن عقيل نحو التعقيد!.. ونحن لا نتقبل أن تكتب كلمة جمعاء هكذا «جمعاأ»، وكذلك كلمة علماء بهذه الصورة «علماإ».. وقس على ذلك كلمة «فقهاإ» وهكذا.. وقد أنكر الناس على الدكتور طه حسين رحمه الله حين كان له شيء من هذا النشاز قبل عقود، فدعا إلى ما يلقي به الشيخ اليوم، بحيث يكتب اسم طه هكذا «طاها» . ومنهاج الأستاذ أبي عبدالرحمن يمضي على ما اختار من توجه معقد مزعج!.. انظروا إلى كلمة الأداء عنده «الأداإ».. ومررت بكلمات «أخرا» و «أحرا» ، «الثناإ»، «جاأت».. ورسم كلمة هؤلاء السهلة التي درجنا عليها، ولكنها عند شيخنا تبدو وكأنها مضحكة، إذ يرسمها ويرسلها هكذا :«هاألاإ».. وعلى هذا التوجه نحن نُحوِّل حروف لغتنا إلى ما يشبه الحروف الصينية واليابانية وما إليهما، ويبدو أن الشيخ مع التعسير، وضد التيسير!..)3( وانظروا إلى كلمة أداؤه كيف هي عند الشيخ :«أداأه»؟.. أعان الله موظفي الكومبيوتر في «الجزيرة» و«المجلة العربية» وغيرهما، ولعلهم يستحقون أن يكافأوا مادياً على جهدهم، ويشكروا على صبرهم». قال أبو عبدالرحمن: موضوعنا لا علاقة له بعسر اللغة أو يسرها، لأنه لا علاقة له ببنائها بتصحيح عاميٍّ، أو تخطئة فصيح، أو تغيير بنية الكلمة، أو تغير مدلولها، أو باختصار حروفها، أو بالإضافة إلى حروفها.. وإنما يتعلق برسم كلمات اللغة العربية حسب صور حروف المعجم المجمع عليها من الألف إلى الياء.. وهو دعوة قبل مسألة التعسير والتيسير إلى تصحيح الأخطاء الشنيعة في كتابة حروف المعجم بغير صورها المجمع عليها فصلاً ووصلاً، وإعجاماً وإهمالاً وتشكيلاً لما أشكل.. وبعد الدعوة إلى هذا التصحيح اتضح بجلاء كالشمس أن اليسر كل اليسر في البقاء على ذلك الواقع إلا لاستثناء معتبر يقوم التسويغ فيه مقامَ العلة للمعلل.. ووجه اليسر في ذلك أن الناشئ يتدرَّب على الهجاء قراءة وكتابة بذلك الرسم المجمع عليه في تحقيق صور الحروف، فيكون تدريبه قراءة تلقائية بلا قواعد معقدة.. ويتلخص التأصيل اليسير فيما استُثَني لضرورة برهانية.. ووجه العسر في الرسم المعتاد: أنه صرَف الناشئ عما ألفه في الصغر والعلم في الصغر كالنقش في الحجر إلى غير مألوفه بقواعد كثيرة معقدة غير منطقية في أكثرها، وغير مسوِّغة لتغيير صورة الحرف. وعدم تقبل الأستاذ «لجمعاأ»بدل جمعاء لم يعلله بسوى أنه نشاز، وأنه خلاف ما ألفه.. وحينئذ نقول لأستاذنا الفاضل: الهمزة وحدها علامة حرف وليست حرفاً، لأن الألفات في الرسم ثلاث: ألف المد التي لا تقبل غير السكون، والألف المسهلة وتقبل كل الحركات، والألف المهموزة وتقبل كل الحركات وتحتاج إلى علامة تحقيق وهي الهمزة التي وضعها الخليل بن أحمد رحمه الله على صورة رأس العين، أفيكون نشازاً كلمةٌ رُسم حرفُها المختلفُ فيه على صورته بهمزة فوق الألف تُغني عن علامة الفتح، وتحتاج إلى علامة الضم وعلامة التنوين، وتحتاج إلى وضع الفتحة فوقه إذا كانت الكلمة ممنوعة من الصرف فهي الألف، أو همزة تحت الألف يغني وضعها أسفل الألف عن علامة الكسر، وتحتاج الى تنوين، فأغنى وضعها أسفل وأعلى عن التشكيل في موضعين، وفي هذا تسهيل.. أفيكون هذا الوضع الحصيح خطأ، المحقق يسراً: نشازاً لأجل الإلفْ الخاطئ الذي يجعل علامة الحرف حرفاً وسط السطر؟! والحكم في «جمعاأ» هو الحكم في «العلماإ»، و« الفقهاإ»، و«الأداإ»، و «الثناإ» ، و «جاأت». أما قاهر الظلام، وشيخ الدكاترة، وعميد الأدب طه حسين: فله هفوات كيانية بتأثير فرنسا وشيخه مرجليوث، والعقاد خير منه فكراً وتوجهاً، وطه حسين صادق مع نفسه في سيرته وإن كان في ضلال كثير من فكره، وأمتع أدباً، ومتعته أكبر من منطقه.. وأشهد أن كتابته لا سمه هكذا «طاها» مما وُفِّق فيه غاية التوفيق، لأنه لا مسوغ لهضم الطاء حقها من المد، وكانوا يُشعرون بذلك فيضعون ألفاً صغيرة بعد الطاء، ومع أنه لا مسوغ لفصل ألف المد عن الطاء : فقد تُنوسيت. والناس يسمون طه وياسين يظنونهما من أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمحقق أنهما من الحروف المقطعة مثل كهيعص والمر وألم، وقد جرى العرفُ في العصور المتأخرة من تاريخنا قروناً .. فما رأي أستاذنا عبدالفتاح: أنظل على أن طه وياسين اسمان للمصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، ولا يهمنا التحقيق الشرعي؟!!. وأما «أُخْرا، وأَحْرا» فقد بينت البراهين الساطعة على أنه لا دخل للنحويين في تغيير صورة الخط العربي، وأنه لا يلزم الرسم من النحو إلاَّ ما لا أثر له في التغيير مثل معرفة الموضع الذي تحقق فيه الهمزة، وموضع وصل الكلمتين وفصلهما. ويرى الأستاذ حفظه الله أن كتابة «هاألاإ» بهذا الرسم تُحوَّل حروف لغتنا إلى ما يُشبه الحروف الصينية.. إلخ. قال أبو عبدالرحمن: والله ما جئت بشيء من عندي، فالهاء الممدودة في الخط العربي بعد تطوره واستقراره هكذا «ها» والأف المهموزة المضمومة صورتها في الخط العربي هكذا «أُ» والألف المهموزة المكسورة صورتها في الخط العربي هكذا «إ».. أما كتابتها هكذا «ؤ»، وإبدال الألف واواً مع بقاء همزتها فوقها: فذلك هو تحويل الحروف إلى ما يشبه الصينية، لأنه ليس في صورة الخط العربي كتابة الألف المهموزة هكذا «ؤ»، ولا أعلم مسوغا لاعتداء أهل الرسم على صور حروف الخط العربي، وإنما أدعو إلى بقاء الخط العربي المتطور بالشكل والإعجام والتنوين والتشديد على وضعه، لأن ذلك أول ما يتعلمه الطالب، ويرسخ في ذهنه، ويعلم به الحرف المطابقَ لما أُريدَ النطقُ به،، فلماذا نزعج تعلماً كالنقش في الحجر بتبديلٍ وتشويه بلا قواعد معتبرة، ولا تسويغات واردة ورود العلة على المعلول؟!.. إذن تحويل حروفنا إلى حروف صينية إنما هو فيما دعا الأستاذ إلى التمسك به من الكتابة هكذا «هؤلاء» فهل في حروف العربية هاء ممدودة هكذا «ه» ، وهل في حروف العربية ألف مهموزة مضمومة هكذا «ؤ»، وهل في حروف العربية ألف مهموزة هكذا «ء»؟؟!!)4(. ومثل «هؤلاء» اسم الإشارة للجماعة «أولئك»، فهل في حروف العربية ألف مهموزة مضمومة هكذا «أو»، وهل في حروف العربية لام ممدودة هكذا «ل»، وهل في حروف العربية ألف مهموزة مكسورة هكذا «ئ»؟؟!!.. إنني أدعو إلى مطابقة الرسم لصور حروف اللغة، ليتحقَّق الرسم وفق النطق، لأن اللغة للبيان لا للإيهام والإلباس.. وبيانُ اللغة يحصل بالنظر قراءة، وبالسمع نطقاً، فلابد من موافقة بيان القراءة لبيان النطق.. وأدعو إلى فصل التحكم النحوي الاصطلاحيِّ في هُوِية حروف العربية وَفْق صورها، لأن الاصطلاح فنٌّ يحقق مراد صاحبه بدون أن يعتدي على كيان حقل علمي آخر.. وأدعو إلى الكتابة وَفْق ما انتهى إليه الخط العربي في تطوره ومكمِّلاته تشكيلاً وإعجاماً. إلخ.. أما الخطوط البدائية الناقصة فنفكُّ بها رموزَ ما كُتب بها في حينها ولا نستأنف الكتابة بها، وأما رسم المصحف الإمام فَشرْطٌ في كتابة المصحف، وقد أسلفت الحكمة الربانية في ذلك.. وأما عن التفسر تجزئة بعد رسم الآيات جملة وفق رسم المصحف الإمام فيجب وجوباً )ولا أقول: يجوز، أو يستحب( رسمها وَفْق حروف الخط العربي بعد تطوره، لِيُحْسِن المثقف غير المتخصص والعاميُّ قراءة كلام الله.. وقد ذكرتُ في تباريحي كثيراً من الآيت التي كنتُ أتلوها خطأ بسبب الرسم، ولازمني هذا الخطأُ في الكبر حتى نبهني من هو أكبر سناً وأكثر علماً، أو من هو أصغر سناً وأقل علماً بعد أنه أُعطي كلامُ الله حقه في بلادنا من التعليم فيما يتعلق برسمه وتجويده وقراءته، فأصبح عندنا مُقْرِئون بمعنى الكلمة. وأما دعاء الأستاذ للقائمين على جريدة «الجزيرة» و «المجلة العربية» وغيرهم بالعون: فكنت أود لو شملني بالدعاء. على أنهم لو أمروني بالكتابة على الرسم المعتاد الخاطئ لفعلتُ وقلت: سمعاً وطاعة.. وهكذا ما أنشره لغيري في مُؤسستي «دار ابن حزم» أتقيدُ بالرسم المعتاد إذا لم يرغب المؤلفُ أو المحقق أو المترجم منهجي.. أما مؤلفاتي وتحقيقاتي: فلا أترك فيها الرسم الصحيح الذي قام برهانه «لأن مهمة كل عالم محقق فيما علمه وحققه ببرهان قاطع ولو في مسألة واحدة :أن يلتزمه، وأن يدعو إليه على قارعة الطريق.. وقد أغناني الله «بالجزيرة» والمجلة العربية وغيرهما عن قارعة الطريق!! أما تعليق الأستاذ عبدالفتاح على حديثي عن الزيات)5(: فيعلم حفظه الله أنني من المبادرين إلى وصفه بالإمامة في البيان، فَوَصْفُه للزيات بأنه أمير البيان العربي: لا يعني التعريض بأنني بخسته هذا الحق.. وثمة أعلام أسروني في حياتي العلمية كالإمام الشافعي وابن جرير رحمهما الله في أسلوبهما، وابن حزم رحمه الله: في تبحُّره، وتعدد معارفه، و قوة عارضته، وحسن تبويبه، وترتيبه على الرغم من هفواته الصُّلْع .. وابن فارس، والأزهري، والراغب، والزمخشري رحمهم الله في تأتيهم اللغوي عندما يتكلمون عن الاشتقاق المعنوي، والإمام الحافظ أبي عمر ابن عبدالبر في سعة العلم، وحسن التصنيف، وكثرة الإيراد مع التواضع العلمي مما هو تزهُّد عالم نحرير .. وإن كان دون مستوى أمثال الشافعي وابن حزم وابن تيمية وابن قيم الجوزية في قوة العارضة، فسعةُ علمه أبلغ وأمتع من منطقه، وفي منطقه خير كثير ولا سيما إذا كان بجانب النص، وفي أسلوبه رحمه الله تعقيد.. وكالأحنف بن العباس في سهولته وبساطته وصدق غزله، والبحتري ومهيار الديلمي وابن هانئ والمهندس علي محمود طه في موسيقاهم، وأبي تمام وأبي الطيب للتثقف على معانيهما، وحذق قاعدة التأتي في الأخْذ.. وإبراهيم ناجي وبلزاك في رومانسيتهما التي تأخذ بأرواح المتيمين، والجاحظ وأبي حيان التوحيدي والزيات في ترسلهما وازدواجهما وتداعياتهما، ففي ذلك متعة لا قدوة، لأن كثرة ألفاظهم فوق الحاجة.. وطه حسين ودريني خشبة وسيد قطب ومحمد الغزالي في إيقاعهم الجميل، وزكي مبارك في إيقاعه وسخريته.. كما أستمتع بلوثته وليست لي قدوة، وأستمتع ببديع ابن حجة وما جمعه ابن معصوم وأدعو إلى إحيائه بلا تقصُّد.. أما البديع الهمذاني والحريري وكل المقامات فلا أُطيق قراءتها إلا للمثاقفة اللغوية وشبهها، وأبي طالب عقيل بن عطية، وابن القطان، والشاطبي صاحب الموافقات في دقة التأصيل والملاحظة والنظر إلى الفروق الدقيقة، وابن رشد والكاساني في حلاوة التبويب المنهجي، وديكارت وأمانوئيل كانط في منهجية الأول، ونقدية الثاني.. وأما محمود شاكر، ومصطفى صادق الرافعي، والمنفلوطي فلا أُطيق القراءة لهم إلا للمراجعة، فالأول إمام ولكنه يقعر ويطيل الكلام إلى حدِّ الإملال مع ضيق الموضوع، والآخران لا يناسب أسلوبهما إيقاع العصر.. على أن الرافعي أصح من خصومه توجهاً، وأقوى حجة.. وأستفيد وأستمتع بسعة علم أنستاس الكرملي، والبستاني في دائرة معارفه )لسعة ثقافته(.. ولكنني آخذ منهما بحذر.. وأعود إلا الزيات فأعلن تتلمذي على رسالته وهي تأتي في كراريس لا أحصل عليها في صغري إلا بشق الأنفس شراء نادراً، واستعارة تارة، وانقطاعا في الأكثر حتى أتيحت لي كاملة.. ومتعتي بما ينشره لغيره أكثر.. ولا أنكر جمال مقدماته للرسالة، ولكنها ليست كإيقاع سيد قطب مثلا، وعنصر المنطق والمادة المعنوية فيها قليل لكثرة تقصُّده للترسل والازدواج جمعاً بين منهج القدماء وروح العصر.. لا أستثني سوى ترجمته لرفائيل، فما أمتعها أسلوباً وعاطفة ومحتوى.. وسر ذلك أن له الصياغة، والمحتوى لغيره، وهي تفوق ترجمتين أخريين نُقلتا إلى العربية من ناحية الجمال، أما المطابقة لمعاني اللغة المنقول عنها فلا أحذق ذلك إلا بمقارنة كمقارناتي لرباعيات الخيام)6( من تراجم عديدة، فوجدت من اتفاق الترجمات ولا سيما من نقل عن الفارسية، ولم ينقل عن فتزجرالد أنها أصح وأصدق، ووجدت أحمد رامي أجملهم أداء فنياً، وأمتعهم إيقاعا مع أنه يعيش ظلال معاني الخيام لا لُبها. وأستغرب أستاذنا الفاضل عبدالفتاح حكمي على كلام الزيات عن الفقهاء والفلاسفة: بأنه لا يليق إلا بحق طلاب الابتدائي حسب مناهج الدراسة هذا اليوم.. ولن أطيل الجدل حول هذه المسألة، بل أطلب منه أن يعود إلى كتابة الزيات في الغرض المذكور، ثم يفيدني مشكوراً بأي تصُّورٍ مُفيد ينال به طالبُ المتوسط ودعك من الثانوي ثقافة في الفقه وأصوله، والفلسفة ومدارسهما؟.. إن أستاذنا عبدالفتاح حفظه الله استدل بما هو عليه لاله، لأنه قال: «وأنا أسأل الشيخ: أي طلاب ابتدائية اليوم)7( عندهم شيء من معرفة؟.. وأتجاوز إلى الإعدادية والثانوية.. إنهم يا شيخنا مفلسون إذا كنت لا تدري عن واقعهم، أما قبل خمسةعقود وأكثر فإنهم كانوا أهل دراية بالدرس، وكانوا عاليي المستوى لكن الزيات)8( ذو البيان العربي المبين يدرك المستوى الذي يكتب إليه ويخاطبه». قال أبو عبدالرحمن: أعلم هذا جيداً من واقع دروسنا في الابتدائي والمعهد العلمي )متوسط، وثانوي(.. وما دام طلاب الابتدائي في ذلك الوقت بهذا المستوى المشرق فكيف يُلقنهم الزيات هذا التسطيح غير المفيد فقهاً وفلسفةً؟!.. إن أستاذنا عبدالفتاح لا يكرس رأيه بهذا الاستدراك، ولكنه ينقضه. وفي الختام أشهد أن الأستاذ عبدالفتاح من أساتذتي في صحافتنا السعودية يوم كنت طويلب علم أيام الصغر، وأظن أن أول لقائي به في بيت شيخنا أبي تراب منذ ربع قرن تقريباً أو أقل، وأنني أنَست بخلقه الرفيع، وتواضعه الجم.. زادني الله وإياه وكل إخواني وأحبابي خيراً وفضلاً وعلماً نافعاً، وعملاً متقبلاً، واجتهادا صائباً في أمور ديننا يرفعنا الله به درجات، وأعده إن شاء الله بأن أرسل له الجزء الأول من كتابي «رسم القلم ورموزه» الموجود في المطبعة قبل طبعه، والله المستعان. الحواشي: )1( يرى عددٌ من النُّقاد خطأ اعتبر بمعنى اعتدَّ، لأنها لم ترد في المعجم، وقد حققتُ في غير هذا الموضع على فرض أنها لم تُسمع أنها صحيحة مجازاً، لأن الاعتداد أخذٌ بنتيجة الاعتبار، ولهذا المجاز جعل أهل أصول الفقه الاعتبار قياسا، ونازعهم الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله في هذا المعنى متمسكاً بالأصل اللغوي. )2( يظن بعضهم حسبما سمعته من استشكاله أن المداعبة لا تكون إلا من الرجل للمرأة!!.. وهذا جمود بلغة العرب يقتضي أن كل مرادف كذلك، فيقال مثلا: لا تصح الممازحة إلاَّ من الرجل للمرأة!!.. بل المداعبة والممازحة تكون بين الرجال أنفسهم، وبين النساء أنفسهن، وإنما يخص المرأةَ من الرجل نوعٌ من المداعبة لا كلُّها. )3( وضع أستاذنا النقطة قبل علامة التعجب.. والمحقق في علامات الترقيم أن توضع النقطة بعد علامة التعجب، لأن النقطة لانقطاع الكلام، وما يتعلق به من تعجب، ثم يحسن الابتداء من أول السطر.. والذي حققته أن تُوضع النقطتان الأفقيتان، لقطع الكلام واستئناف ما بعده في السطر نفسه، وعند ابتداء الكلام بمسألة، أو جزئية مسألة ذات تفريعات: توضع النقطة، ويبدأُ من أول السطر. )4( إذا تعددت التساؤلاتُ وعلامات التعجب: فإن الكُتَّاب يضعون بعد كل سؤال علامة الاستفهام والتعجب.. والأبلغ: أن يُفصل بين السؤال بالواو المقلوبة، ثم يُوضع بعد آخر تساؤلٍ عدد من علامات الاستفهام والتعجب بمقدار ما يريده الكاتب من إثارة ذهن القارئ، فإذا أراد استئناف التساؤل عن مثال آخر أو مسألة أخرى وضع النقطتين الأفقيتين بين علامة الاستفهام والتعجب، واستأنف التساؤل على نحو ما سبق. )5( قال أبو عبدالرحمن:أدْرجتُ تلك المقالة ضمن كتابي «العرب نسباً وشرفاً». )6( طُبعتْ منذ ثلاثين عاماً بعنوان «الفناء الباقي في رباعيات الخيام، أو الانقلاب الذري».. وهي مقارنة عن فلسفة الكوز. )7( وضع أستاذنا عبدالفتاح علامة القطع والاستئناف في هذا الموضع وهي النقطتان الأفقيتان ، وهي مخلة، لأن الجملة لم تنته بعدُ.. واستخدام علامات الترقيم، والإكثار منها لغير ضرورة: ظاهرة عند كُتاب العصر، ولما لها من أهمية في إيضاح الكلام ينبغي استخدامها جيدا، وهي محل عنايتي في كتابي «رسم القلم ورموزه». )8( «ذو» على أساس «لكن» غير المشددة، والأبلغ تشديدها من أجل الاستدراك، ونصب «ذا»، والخبر «يدرك».