«ضجر اليباس» مجموعة قصصية صدرت حديثا للقاص «عبدالحفيظ الشمري» عن «النادي الادبي بالرياض». وقد تضمنت المجموعة عشر قصص قصيرة كتبها الشمري فيما بين عامي «1998م 1999م( وهي الاصدار السادس في سلسلة الاعمال الصادرة للكاتب الذي مارس كتابة القصة القصيرة لفترة من الزمن حيث يعتبر من الاقلام السعودية الشابة المبدعة على ساحة القص السعودي الحديث. الحياة والموت: لعل ابرز ما يشد قارئ هذه المجموعة تلك الاجواء المفعمة بالحياة والموت على نحو يشعرنا بالصراع القائم بين هذين العنصرين على ارض الواقع بشكل متواتر، وبشكل يجعلنا احيانا غير قادرين على حسم هذا الصراع والتكهن بايماءاته ومدلولاته الواسعة التي تخلط الحياة بالموت، والموت بالحياة، والواقع بالمتخيل والعكس.. إنها فلسفة هذا الوجود وميزانه الحيوي )البيولوجي( الذي يربط بين عناصره بنظام بيئي حيوي متوازن لا اختلال فيه. إن هاجس «الحياة والموت» الذي اكتنف نصوص هذه المجموعة كلها، وبمضامينه المتعددة هو اشبه ما يكون في اعتقادي بالخيط السحري الرفيع الرابط بين المجموعة وقارئها على نحو لا يجعل اياً منهما يفقد توازنه في حفاظه على «شعرة معاوية» كما يقال . وكما ان للانسان في حياته روابط تربطه بمكوناتها وعناصرها )للحياة بمعناها الايجابي من سعادة وهنا و حب ورفاء.. الخ( فإن له في حياته ايضا روابط حزن وتعاسة وشقاء ربما زادت نفسه صفاء ونقاء، وصبرا وجلدا، وصقلت روحه في سبيل البقاء، والكفاح المستميت لمواجهة ظروف الحياة بمتناقضاتها مع مرور الزمن ، وهذه أحد الملامح المستشفة التي يستشفها قارئ «ضجر اليباس». وقد ظهرت للحياة والموت في المجموعة صور متعددة قد لا تدل بالضرورة على المعنى الفعلي او الحرفي لهما، وانما قد تدل على صفة من صفاتهما، او على ملمح من ملامحهما، او على شيء من تأثيراتهما المحسوسة واللا محسوسة. ان كثرة المترادفات الحسية والمعنوية للحياة والموت في مجموعة الشمري قد اضافت ابعادا وآفاقا جديدة لمجموعته اكسبتها عمقا في الرؤية، وبعدا في النظر، وخيالا مجنحا قادرا على استيعاب وتصور الحياة والموت بمعنانيهما ومسمياتهما الكثيرة، وان كانت المحصلة النهائية لكل منهما واحدة في نهاية الامر. لذلك فإنها لا تخلو قصة واحدة من قصص المجموعة من ذكر الموت او الحياة بمسمياتهما ومترادفاتهما المتعددة، بل نكاد نقول انها لا تخلو عبارة، او مقطع من مقاطع كل قصة منها من ذكر ذلك، او التعريض به، او الايماء اليه، او الايحاء به. ففي القصة الاولى من المجموعة التي تحمل عنوان «جنون مدروس» يسلط الكاتب الضوء على المفارقة الغريبة بين زوجين احدهما في سن الشيخوخة وهو الزوج، والآخر في ريعان الشباب وهي الزوجة حيث يظهر للقارئ عدم التكافؤ في الزواج بين الزوجين سنا وتفكيرا وبالتالي نرى ثمرة هذا الزواج البائس حيث يأتي المقطع التالي من القصة: ) في صباح يحمل رائحة المفاجأة الفاجعة اقتلع الطفلتين من بين يديها.. كان حذرا منها، وتنتابه الشكوك في امر طفلتيه .. يتصور انها ربما تقتلهما لحظة انخطافها، وهياج اعصابها، استبدل ابواب البيت بأخرى اشد غلاظة ، ووضع على النوافذ حديدا مشبكا حصيناً..( ص14. ولنا ان نلاحظ هنا بعض الالفاظ التي تحمل اكثر من معنى للموت مثل )الفاجعة، اقتلع، تقتلهما..(. وفي مقابل الموت في هذه القصة تظهر لنا ايضا صورة من صور الحياة، حيث نرى المشهد التالي من القصة نفسها: ).. كأنه في اقترانه بها ينشد امرا خفيا، ينجلى بانصرافه عن حياة الاسوياء.. فهو المغرم بفعل الحسنات.. انجبا على حول دار عليهما من دهشة الآخرين، فكانت فاتحة الجنون بنتين توأمتين تمؤان كقطتين بلا أعين..( ص14. ويلاحظ قارئ المجموعة هنا ورود بعض الكلمات والالفاظ التي تشكل في مجملها صورة معينة للحياة في نفس كل من هاتين الشخصيتين المتباينتين مثل )الألفاظ، التجلي، الحياة، انجبا..(. كل هذه اللالفاظ تشكل في سياق معانيها المتعددة صورة واضحة لجانب من جوانب الحياة التي تعيشها كل من هاتين الشخصيتين المتباينتين جنسا وسنا وعقلا وفكرا. وفي «ضجر اليباس» يرسم لنا عبدالحفيظ صورة من صور التحدي الجامح لظروف الحياة المحيطة مهما كانت النتائج، اذ تظهر لنا شخصية ذلك الرجل المكابر، المتعنت، وربما «المتغطرس» الذي يأنف ويأبى ان يحني رأسه لشيء ابدا حتى لمجرد شرب الماء من الاناء، فإنه يرفع الاناء ليتسرب الماء من اعلى رأسه الى فمه. ).. يروض كما يليق برجل أليف الا انه لم يتخل عن ادعاء شموخه بدربة متقنة ليمقتني ويذلني. آخر مرة رأيته لا ينحني حتى لشرب الماء، بل يرفعه فوق جبينه ليتهادى منحنيا الى شفاهه..( ص20. إنها شخصية عبثية متمردة على الحياة ونظامها، لا تقبل الانحناء والخضوع مهما عصفت بها الظروف والاحوال. ولكن ماذا عن نهاية هذه الشخصية المتمردة؟: ).. حمل الى الفناء.. وتحت التراب العبق، وفي عتمة قصية نائية دفن طفل دهس بالامس، تمدد كما يليق برجل هذه العناء، داهمته النهاية بلا مفاجأة..( ص 21. ولا شك انها النهاية الطبيعية والحتمية لكل حي تدب في جسده الحياة على وجه هذه الارض، حيث كانت نهاية هذا الرجل متواضعة جدا على عكس ما كانت عليه حاله حين كان حيا، اذ مات ودفن قرب )طفل دهس بالامس(. ولعل الشمري قد اوضح لنا من خلال هذه القصة وبشكل غير مباشر متضادات الحياة ومتناقضاتها، وما يحكم هذا التناقض او التضاد على نحو لا يخل بتوازن قوى الطبيعة وناموس الحياة. فذلك الرجل المكابر على الرغم مما كان يتمتع ويتصف به في حياته من تمرد وتعنت وغطرسة مات وصار تراباً، وكأنه لم يكن حتى ان قبره كان قد وضع بجانب قبر طفل برىء ليست له اي دراية في الحياة بحلوها ومرها. وفي ذلك يوحي لنا الكاتب بأن الموت لا يختلف فيه الكبير عن الصغير، ولا الغني عن الفقير، ولا القوي عن الضعيف ، بل هم كلهم سواء، وان كانوا مختلفين في احوالهم وهيئاتهم التي كانوا عليها عندما كانوا احياء. وهذا يذكرنا بقول ابي العتاهية: امر قبور المترفين فلا ارى بهاء وكانوا قبل اهل بهاء ويجرنا الحديث عن قصة «ضجر اليباس» الى مسمى المجموعة نفسها، واختيار هذا الاسم لها، واستيحاء لوحة الغلافين )الاول( و )الأخير( في هذا المسمى بشكل فني جميل. ولاشك ان اللوحتين وخاصة لوحة الغلاف الاول قد اعطت ابعادا فنية جميلة ورائعة لما تتضمنه وترمز اليه ، وافسحت المجال للخيال والذهن لان يحلق في فضاء ابداعي رائع ومدهش يستحضر كثيرا من المدلولات والرموز التي توحي بها هذه اللوحة. ولا نريد هنا الدخول في قراءة تفاصيل النواحي الفنية للعمل كلوحة الغلاف او شكل الاخراج او الطباعة.. الخ حتى لا تخرج هذه الدراسة من كونها قراءة ادبية لعمل ادبي الى قراءة للوحة فنية تشكيلية، لان لكل عمل ابداعي خصوصيته، ومقاييسه ومعاييره الخاصة به. ولكنا نعرف جميعا ان للريشة واللون لغة ابداعية غاية في الجمال والروعة لا تقل في روعتها وجمالها عن اللغة الادبية الابداعية للقلم والجسد والورق. ولذلك فقد اصبحت لوحة الغلاف لدى كتاب القصة والرواية في العصر الحديث من )الكماليات( التي يحرص كثير من الكتاب على العناية والاهتمام بها، وان كانت في الوقت نفسه ليست من مقومات العمل الادبي، ولا من اساسياته التي يقوم عليها ابدا. اللغة والسرد والحوار: يتمتع القاص عبدالحفيظ الشمري بلغة قصصية سردية رقيقة وشفافة غاية في الجمال والروعة كما هو واضح لمن يتصفح مجموعته «ضجر اليباس». وقد اتكأ في هذه المجموعة على لغة «السرد» بشكل جلي مغيبا لغة «الحوار» في مقابل ذلك، ومكتفيا بتحليل شخصياته وتفاعلها مع الحدث القصصي تحليلا وصفيا خارجيا )غير ذاتي( في غالبه. وسواء كانت لغة القص لغة سردية او حوارية فإن ذلك ليس مقياسا او معيارا لنجاح العمل القصصي من عدمه، ولسنا هنا بصدد الحديث عن مدارس القصة والرواية، او الاحتكام الى انصار )الحوار( او انصار )السرد( لان ذلك لا يهمنا بقدر ما يعنينا ما يقدمه لنا القاص او الكاتب في عمله القصصي، وهل نجح في معالجة قضية من قضايا الحياة المحيطة بنا وفي ايصالها الينا نحن كمتلقين او قراء وما مدى ذلك كله ؟ اعتقد ان الشمري في «ضجر اليباس» قد نجح في لغتة السردية القصصية، وفي معالجة شخصياته وتفاعلها مع الحدث القصصي وفي ايصال ذلك للمتلقي من اسهل الطرق واقربها لذهنه ولقلبه ووجدانه باسلوب رائع وجميل. خاتمة: ان متلازمة )الحياة والموت( في )ضجر اليباس( هي )توأمية( هذا الوجود وهذه )الكينونة( التي نعيشها ونحياها بظروفها واشكالها وهيئاتها ومظاهرها، وهي )الهاجس( الذي يرافق الكائن الحي وبخاصة الانسان منذ ولادته على هذه الارض حتى موته او فنائه. فهل اراد )عبدالحفيظ الشمري( ان يقول لنا شيئا آخر غير ما تعنيه هذه المتلازمة؟.. ربما اجاب بعضنا ب)نعم( وبعضنا الآخر ب)لا( ولكننا في كلا الحالتين لن نختلف على جمال «ضجر اليباس» وروعتها، واعتبارها اضافة جديدة لمكتبتنا القصصية السعودية الحديثة. ضجر اليباس )قصص( عبدالحفيظ عبدالله الشمري